انترنيت الأشياء: تذكية الشيء وتشييء الذّكيّ

 

 انترنيت الأشياء:  تذكية الشيء  وتشييء الذّكيّ

د. حسين السوداني

المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة

 houcine

 

 

 

ارتبط مطلع القرن الحادي والعشرين بمنعرج في علوم الذكاء الاصطناعي جدد للغة ولعلومها الحظوةَ التي تضاعفت منذ الطفرة التي حققتها علوم الإدراك والحاسوب. ففي مطلع القرن أُعْلن ظهور الجيل الثالث من الشبكة العنكبوتية، وهو جيل الويب الدلالي (Semantic Web).  ويرتبط هذا الفتح الجديد بثلاثة معطيات أساسية ، أولها إقامة العلاقة بين المستخدم والشبكة على التفاعل، والثاني هو تشبيك المعطيات -مهيكلَة كانت أو غير مهيكلَة – على نحو ينتهي بها إلى درجة عالية من الرصف والبَنْيَنَة التي  تيسّر معالجتها واستخدامها، وهذا يخلص بنا إلى معطى ثالث هو أنّ ما قد يبدو من فوضى في دفق المعلومات يصبح منظما في سياق شبكيّ تشعّبيّ.

ومن النتائج المباشرة لهذا الإطار التقني الجديد أنّ القسمة التقليدية في عالم الحاسوب إلى عتاد (Hardware)وبرامج (Software) أصبحت قسمة غير دقيقة. وهو الأمر الذي بدأت ملامحه مع انترنيت السحاب (Cloud Internet) حيث أصبحت أنظمة برمجية تحُلّ محلّ المعالِجات والذاكرة العشوائية. وبالتالي يجد الباحث نفسه إزاء منظومة سريعة التجدد من ناحية، وذات تخوم متحوّلة من ناحية ثانية. وبذلك أصبح المعوَّل الأساسيّ على المكوّن البرمَجيّ لا في التخفُّفِ من التبعية إلى العتاد المادّي فحسب، وإنما أساسا في توسيع أوجه توظيف الذكاء الاصطناعيّ، فكان انترنيت الأشياء (IOT) الظاهرة التي يراد من خلالها أن يكون في كلّ الأشياء الحيوية للإنسان مكوّن برمجيّ ينظّمه.

ولكنّ “تذكية الأشياء” التي تحيط بنا تستدعي في واقع الإنسان المعاصر منظومة قيمية ولغوية تتجاوز حدود العالم السيبرنيتيكي إلى المستوى العاطفي والقيمي الذي به تتحدد علاقة الإنسان بنفسه وبالكون. وممّا يضاعف أهمّية ذلك أنّ منظومة التشبيك المعلوماتي الجديدة تقتل كلّ خصوصية وتجعل الخاصّ متاحا للعامّ وإن بدرجاتٍ وحسَبَ مهارات طالبي المعلومة، بل إنّ  ما قد يبدو في لحظة محددة ممتنعا على الاختراق سيكون في مرمى قراصنة المعلومات في لحظة مّا، ذلك أنّه يوجد تناسب تام بين ما قد يبدو من متانة أنظمة الحماية وما يلازم ذلك من حرص  القراصنة على الاختراق.

إنّ الإنسان المعاصر يجد نفسه في هذا السياق السيبرنيتيكي الجديد إزاء منظومة تصوّرية جديدة يطال أثرها محددات وجوده الأربعة: النفسية والاجتماعية والإدراكية والعاطفية.

أما في المستوى النفسي فإنّ كثيرا من السمات البشرية التي تأسس الذكاء الاصطناعي لتجاوزها هي في التقدير  الحوسبي نقائص الإنسان، ولكنها في التقدير البسيكولوجي فضائله التي بها إنسانيتُه. ورأس الأمثلة في ذلك أنّ  ظاهرة  اللبس في اللغة (Ambiguity) هي في تقدير الحاسوبي كبرى العلل في اللغة الصناعية أي  لغة الحاسوب، ولكنّها في التقدير اللساني هي أهمّ خصائص اللغة الطبيعية أي لغة الإنسان، وهو  الأمر الذي نوّهت به اللسانية الفرنسية كاترين فوكس (Catherine Fuchs)وجعلته مقدمة الكتاب الذي نشرت فيه أعمال الندوة التي انتظمت في فرنسا عن اللبس في اللغة[1].  ولئن كان من فضائل اللبس أنه أداة كثير من الخيارات الأسلوبية كالمجاز والتورية والإيهام والتعدد الدلاليّ، فإنه كذلك يحدّد خصوصية الذهن البشريّ في معالجة ما يَرِد عليه من حوامل المعنى. من هذا المنظور، يحصّلُ الذهنُ  المعنى انطلاقا من هامش خطإٍ هو الذي يجعل المتخاطبين  ينسّبون ما يذهبون إليه من المعنى. وبالتالي يعني الذكاء الصناعي –بما هو الحوسبة الدقيقة- مصادرةً لقيمة أساسية في الفعل الإنساني هي قابلية الخطإ.

لذلك يضبط هذا الإطارُ النفسيُّ محدداتِ العلاقة الاجتماعية الناظمة للتعايش الجماعي. فمما يؤمّن إمكانية التعايش بين المختلفين أخلاقيا أن يكون لكلّ منهم حيّز من الخصوصيات العلائقية والسلوكية والتصوّرية التي تؤمّن لهم فرادةً مّا داخل الإطار الاجتماعيّ الذي ينحدرون منه، فمن المواضعات التلقائية للتعاقد الاجتماعي أنه حتى النزوات الأشد حميمية لا تؤدّي إلى الإقصاء ورفض الآخر إذا ظلّت في دائرة الخفاء والستر والخصوصية. فإن أُعْلِنت على نحو من الإغاظة والإثارة، أرْبكت التعايش الجماعيّ . ومتى انخرط الفرد في فضاء منكشف الخصوصيات، فإنّ التشبيك يقتل خصوصيته، لاَ لِإدماجه اجتماعيا، وإنما لإحلال الحرج والارتباك في التواصل محلّ الأريحية والإحساس بالأمان، ناهيك أنّ أشدّ الأشياء حميمية لدينا هي أوْلى الأشياء بإخفائنا وسترنا لها. ومن هذه الناحية فإنّ من استتباعات انترنيت الأشياء أنه يصنع فضاء مشتركا لكن غير آمن أخلاقيا وعاطفيا، فهو يخلق منظومة علاقات تشعّبية تقتل كل خصوصية لأنّ النظام التشعبي لبرامج أنترنيت الأشياء يجعل إمكانيات التشبيك منفتحة ولا تعتمد بالضرورة على ربط مباشر بين المعطيات. ومن سيكولوجية الخطإ أن العدول عنه –أي التوبة في المنطق الديني- يكون بكلفة نفسية واجتماعية أقلّ إن كان بوازع ذاتي داخليّ. أما في هذا الإطار السيبرنيتيكي الجديد فإنّ الحقّ في الخطإ مصادَرٌ بأنَّ لسيرة كل مستعمل ذاكرةً الكترونيةً تُظهر ما يريد أن يخفيه، وتفضح ما عساه يتمنى التنصّل منه. وباعتبار أنّ بين القيم تداعيا وترابطا وثيقا، فإنّ الخطأ موصول بقيم كالتسامح والنسيان والتدارك والحِلْم. أما المنظومة التواصلية الالكترونية فإنها قائمة على وثوقية لا نسبية فيها، وبمقتضى ذلك فلا حِلْم في هذا الفضاء الافتراضي حتى إزاء الزلات العابرة متى احتوتها الذاكرة الالكترونية ورمت بها في بحرِ شبكةٍ لا حدود لها في الزمان والمكان.

إنّ هذا الإطار النفسي والاجتماعي الناشئ على هامش الفضاء الافتراضي عموما وعلى هامش انترنيت الأشياء خصوصا، ذو استتباعات دقيقة على مستوى المنظومة التصوّرية (Conceptual system) التي تتحدّد بها دقائق رؤيتنا للعالم والأشياء والتي ستتجلى على نحو مّا في اللغة، فإذا استقرت في مؤسسة اللغة غدت مواضعة إدراكية وجودية لا اجتماعية فحسب.

إنّ كثيرا من المفاهيم والتصورات التي رسخت لها تعريفات معينة في التراث الإنساني قد غدت دوالَّ لمدلولات متغيرة، آية ذلك أنه كثيرا ما عُرّف الذكاء باعتباره خصوصية في الفرد تتجسد في التفاعل الإيجابي مع المحيط. ولكن هذا التعريف القائم على مفهوم الفرادة لا ينسجم والإطارَ التشاركيَّ الذي أصبح الحديث فيه عن “الذكاء الجماعي” بديلا عن الذكاء في معناه التقليديّ. وإنما الفرق بين السياقين أن التصور التقليدي مرجعه الذكيّ الناجح في حين أن التصوّر الراهن غايته الذكاء الناجع. لذلك يتقدم البحث التقني اليوم بغاية البحث عن حلول لمشاكل الآلة عتادا وبرمجة في حين يتمحور المنوال التقليدي لتصوّر الذكاء حول محور مركزيّ هو الإنسان من حيث هو المرجع والمرآة في قيمة الذكاء. ومفهوم النجاعة هو ما به نفسّر ما قد يبدو من نشاز وعدم انسجام بين الحديث عن “ذكاء جماعيّ” من ناحية وما يوسم به إنسان هذا العصر من فردانية (Individualism)، فنحن نتعامل مع الآخر في الإطار السيبرنيتيكي باعتباره وسيلة لا باعتباره غاية.

ومن تجسُّدات هذا الإطار التصوّري والقيميّ الجديد  أنّ الإنسان نفسَه يغدو شيئا من أشياء عالم أنترنيت الأشياء. فإن كان من فضائل هذا الفتح الجديد “تذكية الأشياء” فهل يكون من استتباعاته “تشييء الذكيّ[2]” (Human Objectification)؟

لئن قامت انترنيت الأشياء على زراعة حوامل لبرامج ذكية في ما ليس بالذكيّ، فإنّ واقع الاستعمال قد تطوّر نحو استنْبَات هذه الحوامل الذكية لا في أشياء الإنسان فحسب، وإنما في الإنسان نفسه. وأوضح أوجه ذلك هو الشرائحُ الالكترونية المعروفة بشرائح “التعرف على الهوية بواسطة موجات الراديو” (Radio Frequency Identification) والتي تسمى اختصارا “RFID”. وتعرف هذه الوسائط من حيث العتاد بأنها رقائق الكترونية تُصنع عادة من السيليكون وتحتوي على لاقطات هوائية موجَّهة،  ومن حيث البرمجة تعتمد هذه التقنية على آلية تَعرُّف تلقائيّ انطلاقا من تخزين معلومات تحفظ في رقائق وبطاقات مستجيبة تتولى قراءتها ماسحاتٌ ضوئيةٌ (Scanners). وإذا كان منشأ استعمال هذه الرقائق في سياقات بحثية أو عملية نبيلة فإنه لا مانع عمليّا من استعمالها في سياقات التجسس والتضييق على الحريات.

وأن يتمّ تشييء الذكيّ وتذكية الشيء معناه أنّ ما رسخ في لغتنا  من قسمة للموجودات هو اليوم بحاجة إلى إعادة نظر، فعلى اللسانيّ اليوم  أن يأخذ بعين الاعتبار ثنائيات جديدة في عالمه اللغوي مثل الذكيّ/ غير الذكيّ كما أنّ عليه أن يراجع مقولات قديمة مثل كائن حيّ/ كائن ميّت. وبدرجة ثانية يجب على المشتغلين بمنظومات التواصل الحديث أن لا يغضّوا النظر عن أنّ المنظومات النقدية التقليدية قد أصبحت لا تفي بالحاجة إزاء مستجدات الواقع التقني الجديد حيث غدا الحديث عن التواصل بين الإنسان والآلة أحد المباحث الأساسية للمشتغلين  بهذا العالم الافتراضي[3].

Man-machine communication

.

د. حسين السوداني

المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة

[1] L’Ambiguïté́ et la paraphrase : opérations linguistiques, processus cognitifs, traitements automatisés: actes du colloque de Caen, 9-11 avril 1987. Caen, France : Centre de publications de l’Université́ de Caen, 1985.

[2]  درس فريدريك  فنربورغ (Vandenberghe Frédéric) مفهوم التشييء وأصول هذه الظاهرة في مقال مهم

انظر

Vandenberghe Frédéric. La notion de réification. Réification sociale et chosification méthodologique. In: L Homme et la société,
N. 103, 1992. Aliénations nationales. pp. 81-93.

[3]  هو عنوان  العديد من الكتب مثل:

  • Charles T. Meadow, Man-machine Communication (Information Science), John Wiley & Sons Inc
  • Marie-Pierre de Montgomery, La Communication homme machine, Édité par Centre du XXe siècle, Université De Nice, Centre Du Xx/ Siècle,

أضف تعليق