اللغة والإرهاب
د. حسين السوداني
يتجاور ثالوث العربية والإسلام والإرهاب في الخطاب الإعلاميّ المعاصر على نحو ماكر، فكثيرا ما يُدَسّ قياس مغالطيّ نتيجته أنّ العربية لغة إرهاب، ويتحقق هذا القياس عبر عمليات تحويل وإيهام، فقد روّجت خطابات العولمة أنّ “الإسلام هو الإرهاب وأن الإرهاب هو الإسلام، ثم روّجت أن الإسلام هو العربُ وأن العربَ هم الإسلام، فبدا الاستنباط حتميّا بالضرورة: أن اللغة التي بها جاء الإسلام وبها نزل نصّه المقدّس تحمل في كيانها بذور العنف وَمَنابت البغضاء، فهي بذاتها عدوانيّة تسوّق الكرْه وتحرّض على الإقصاء”[1].
فعلى هذا النحو تُستدرج الأذهان إلى مغالطة فيما كان يسميه سقراط قياسا سفسطائيا، وهو القياس الذي يتدرج في الاستدلال من خلال ما يزعمه من تماهٍ بين ثنائيات متباعدة نحو: الإسلام والإرهاب، فالإسلام والعرب، فالعرب والإرهاب، ثم الإسلام مع العرب والعربية، فالعربية والإرهاب[2]. ويخدم هذا القياسَ المغالطيَّ في أذهان الناس التباسُ تعريف الإرهاب نفسه، فشأن جريمة الإرهاب في أبعادها السياسية كشأن جريمة التحرش الجنسي في حدودها المدنية؛ كلاهما يضيّق ويوسّع بفعل فاعل. ففي الجريمة الإرهابية كما في التحرش الجنسي يمكن توسيع الحدود وتضييقها بتأويل مؤوّل.
لذلك يعتبر تعريف الإرهاب العقبة الكأداء لكلّ الناظرين في هذه الظاهرة إما عمليا كما في السياقات القضائية والسياسية، وإما نظريا كما في السياقات اللسانية أو القانونية، وصعوبة التعريف جعلت التخوم غائمة بين الجريمة الإرهابية وغيرها من الجرائم.
إنّ تواتر ربط الكثير مما يعد جرائم إرهابية بخلفية دينية إسلامية هو ما حدّد لكلّ من المجامع البحثية الإسلامية واللغوية العربية أفقا تعريفيا مسكونا بهاجس تبرئة النفس والدفاع عن الهوية العربية الإسلامية من أن تكون خلفية للإرهاب، وهو أمر جعل هذه التعريفات الموضوعة في سياق عربيّ تفتقر إلى التقنيّة التي يفاجَأ بها الباحث في الأطر البحثية الغربية، وذلك على النحو الذي سنفصله لاحقا.
لقد سعى المجمع الفقهي الإسلامي من جهة ومجمع اللغة العربية من جهة ثانية في إطارين بحثيين منسجمين ومتكاملين إلى تطويق مصطلح الإرهاب بتعريف ينسجم والإطار التصوّريّ العربي الإسلاميّ، ولكنّ من يقرأ تعريفيهما يجدهما لا يخلوان من أمرين: أولهما التبرؤ من أن تكون ظاهرة الإرهاب من الإسلام، والثاني تأكيد أنّ الإرهاب سليل التطرف وأنه ظاهرة عالمية ليست لصيقة دين أو قوم. فلذلك سعى المجمع الفقهي الإسلامي في اجتماعه المنعقد في العاشر من يناير سنة ألفين واثنتين في رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة في دورته السادسة عشرة إلى صياغة تعريف بمقتضاه عرّف الإرهاب بأنه “ظاهرة عالمية لا ينسب لدين، ولا يختص بقوم، وهو ناتج عن التطرف الذي لا يكاد يخلو منه مجتمع من المجتمعات المعاصرة. وهو العدوان الذي يمارسه أفراد أو جماعات أو دول بغيًا على الإنسان (دينه ودمه وعقله وماله وعرضه) ويشمل صنوف التخويف والأذى والتهديد والقتل بغير حق، وما يتصل بصور الحرابة ، وإخافة السبيل ، وقطع الطريق ، وكل فعل من أفعال العنف أو التهديد ، يقع تنفيذا لمشروع إجرامي فردي أو جماعي ، ويهدف إلى إلقاء الرعب بين الناس أو ترويعهم بإيذائهم أو تعريض حياتهم أو حريتهم أو أمنهم أو أحوالهم للخطر ومن صنوفه إلحاق الضرر بالبيئة أو بأحد المرافق والأملاك العامة أو الخاصة ، أو تعريض أحد الموارد الوطنية أو الطبيعية للخطر”
وينسجم هذا التعريف مع الإطار المعجميّ الذي وضعه مجمع اللغة العربية مستندا إلى تعريف المجمع الفقهي الإسلاميّ، فقد صاغ مجمع اللغة العربية على شبكة الانترنيت تعريفا لمصطلح الإرهاب في شكل قرار، ووسمُ التعريف بأنه قرار قد يؤّوله البعض على أنه تفاعل مع واقع أكثر مما يعني تطورا تلقائيا داخل اللغة، وقد جاء القرار بتوقيع وختم من مجمع اللغة العربية على الشبكة العالمية ومقره مكة المكرمة، وتمّ تذييل التعريف بتفصيل تضمن ما صدر عن المجمعيين من آراء وتفاعلات ومراسلات بخصوص المسألة، وجُمع كل ذلك كله بعنوان “تفصيل ما انبثق عن الحراك المجمعيّ في هذا الموضوع الجلل”.
أما نصّ التعريف فقد صيغ على مستويين لغوي واصطلاحيّ، ثانيهما مبني على الأول. فمحتوى التعريف اللغوي للإرهاب أنه “هو الإخافة والتفزيع”، ومتن التعريف الاصطلاحي له أنه “الإخافة والتفزيع بغير حقّ بالسعي في الأرض فسادا أو بقتل من احتلال أو غصب أو نهب من رد عادٍ أو فئة باغية أو دولة ظالمة”.
ولا يخفى على القارئ ما في هذين التعريفين من بعد دفاعيّ وسعْي إلى تطويق المعنى بعبارة عربية ذات سجلّ قرآنيّ. وفي ذلك ما قد يجعل التعريف في عين خصومه محليا تبريريا لا كونيا تقنيا. وتتضح خصوصية التعريف في خلفيتيه المجمعيتين -اللغوية العربية والفقهية الإسلامية- انطلاقا من مقارنته بأطر تعريفية أخرى مثل التعريف الذي اصطلحت عليه وكالة الاستخبارات الأمريكية (FBI) إذ تعرّف الإرهاب بأنه “الاستخدام غير القانوني للقوة والعنف ضدّ الأفراد والممتلكات بهدف إحداث ترويع أو إكراه لحكومة أو سكان مدنيين أو لأي جزء منهما بغاية تحقيق أهداف سياسية أو اجتماعية”[3].
وكذلك الأمر في معجم أوكسفورد إذ يعرّف الإرهاب بأنه “الاستخدامُ غير القانوني للعنف والترويع ضدّ المدنيين خصوصا، وذلك سعيا لتحقيق أهداف سياسية “[4].
ويختزل معجم كمبريدج هذا التعريف في عبارة توجز الإرهاب في أنه يتمثل في عمل العنف الذي يهدف إلى أغراض سياسية[5]
وأما معجم لاروس فيعرّف الإرهاب بأنه مجموع أعمال العنف من هجمات واحتجاز رهائن وغير ذلك مما ترتكبه منظمة لإحداث مناخ من انعدام الأمن ابتزازا لحكومة أو امتثالا لنوازع كراهية تجاه مجموعة أو بلد أو نظام[6]
ما نخلص إليه من ذلك أنّ الإرهاب في الدوائر الغربية يعرَّف على نحوين: أحدهما تعريفه التقنيّ العامّ، وهو تعريف الدوائر البحثية، وبناؤه نظريّ يسعى إلى استيعاب كلّ أوجه العنف التي تهدد سطوة الدولة واستقرار المجتمع. والتعريف الثاني عرضيّ؛ وهو التعريف الذي يطفو على ساحة الخطابين الإعلاميّ والسياسي كلما حصل عمل يوصف بأنه إرهابيّ. وميزة هذا التعريف أنه انفعاليّ ولا يكاد يلتزم من مكونات التعريف العامّ السابق إلا بربط الإرهاب بتهديد سطوة الدولة واستقرار المجتمع.
من كلّ ذلك تشكلَ لظاهرة الإرهاب إطاران تصوريان مختلفان بين الغرب الذي يُدين ويتهم ويرى نفسه ضحية، والسياق العربي الإسلاميّ الذي يبرّئ نفسه ويستبق كلّ اتهام بشجب الأعمال الإرهابية وإدانة كلّ من يفعلها أو يتبناها أو يشجع عليها. ومقتضى هاتين الوضعيتين نشوء مواضعة غدت تجري في الأذهان والخطابات مجرى القانون مفادها أنّ الغربيَّ المتهِمَ بريء أبدا وأنّ المسلم المتبرئ متهَم دائما.
وعلى هذا النحو تسرب إلى الأذهان تلازمٌ ترسَّخَ بقصد أو بغيره بين كل حدث إرهابي من جهة، وثنائيّ العربية والإسلام من جهة ثانية. فما إنْ يعلن عن عمل إرهابي حتى ينبري كل من له صلة بالعروبة والإسلام يبرّئ نفسه من أن يُتَّهم. وخلافا للأصل في القوانين الكونية، يغدو هذا المتبرئُ متهَما حتى تثبت براءته. ومن المفارقات أنّ هذا “المتهَم دائما” قد استبطن هذه التهمة حتى غدت حسب مصطلح بافلوف (Pavlov) جزءا من انعكاساته الشرطية التي ينفعل بها لكلّ طارئ. وهو الأمر الذي كثيرا ما استثمره المستثمرون طالما أنّ ثمة متهَّما هو الأحرى بالتهمة في كلّ الأحوال؛ فيكفي أن يُدرَج في مسرح الأحداث أثر من لسان العرب أو من القرآن ليكون قرينة تحصر دائرة الاتهام بين العروبة والإسلام، وإن تعلق الأمر بقرينة لا ترقى حجيتها إلى درجة الإثبات. وكثيرا ما كان الاتهام بسبب حمل رمز عربيّ على نحو ما وقع في أحداث مدينة نيس الفرنسية في يوليو 2016 حين هوجم صحافيّ قناة “العربية” لمجرد حمله شارة قناة بلفظ عربيّ.
عند هذا المستوى يكفّ إسلام المسلم عن أن يكون انتماء عقديا ليصبح انتماء حركيا، فلذلك يقوم النعتُ “إسلاميٌّ” (Islamist) مقام الصفة “مسلم” (Muslim) وبشكل متنامٍ. وهو لَبْس اشتغلت عليه الآلة الإعلامية الغربية كثيرا إبان حرب البوسنة والهرسك، حتى غدا أكثرها يصف سكان البلاد من المسلمين بأنهم إسلاميون، وهو تدرّج يهيّء للتدحرج بهم إلى خانة الإرهاب.
وعلى هذا النحو يتكرس اليوم وبسعي حثيث انعكاس شرطيّ على درجة عالية من الخطورة، بمقتضاه يتجه الإعلام والاتهام عند كلّ جريمة دولية إلى البحث عن أثر من اللغة العربية، حتى تثبت التهمة بقرينة التلازم بين لسان العرب ودين الإسلام. وذلك في ضرب من الانفعال يتنامى طرديا مع كلّ جريمة دولية. ومن المعلوم في علم نفس الجريمة أنه بالإصرار والتكرار ينخرط الضحية نفسُه في انفعالات جلاده، سيان في ذلك أن يكون بريئا أو مجرما، حتى إنّك تجد اليوم كثيرا من أهل العربية يستبقون الاتهام بالتبرؤ والإدانةَ بالتفصّي. ومن كلّ ذلك انخرط العربيّ بدرجة أولى بهويته اللغوية قبل المسلم الذي قد لا يكون عربيا فيما نحت له مصطفى حجازي مصطلح استبطان القهر.
إنّ من المعلوم في المسألة اللغوية أنّه كيفما يكون المتكلمون تكون لغتهم، ومن العبث سعي البعض إلى البحث عن جذور قديمة لإرهاب لغويّ خُصَّت به العربية في تاريخ اللغات، فكلّ اللغات تنحطّ مكانتها وتعلو بانحطاط أوضاع متكلميها، ولو كان الأمر على غير هذا القانون لكان اللسان العبريّ الأوْلى بأن لا يكون متداولا اليوم، فمن ناحية لم يكن لهذا اللسان قبل قيام الدولة العبرية تداول يذكر، ومن ناحية ثانية بُعث هذا اللسان مسْخا من العبرية القديمة ليكون لسانَ كيانٍ مغتصب فرَضَ الدولةَ ولغتها. وعلى هذا النحو تَجدُ وضع كلّ لغة جنيسَ وضعِ متكلميها: تزدهر بازدهارهم وتنحطّ بانحطاطهم. ولكن الظواهر كثيرا ما تلتبس على الأفهام فيُظنّ السبب نتيجة، وتعدّ النتيجة سببا.
ومن ملامح السطحية الساذجة في المسألة اللغوية أمران؛ أولهما الاكتفاء بظواهر الأمور والتسليم بما يقود إليه الحسّ المشترك في الشأن اللغوي، والثاني هو الاستغناء بالراهن القريب عن غيره من العوامل في تفسير الحاضر؛ ذلك أنّ المسألة اللغوية ليست في حياة الشعوب والأفراد من بنات اللحظة القريبة، وإنما هي حاضنة الثقافة وخزان المعارف ومحرّك الأحاسيس وعنوان الهوية. وكما أن ذلك كله يتأسس بتغيرات مجهرية على مر القرون وعبر التاريخ، فإنّ التخطيط له إنما يتحقق بتأني الصبور المتبصر وحرص الثابت المثابر، وهو أمر يقتضي وعيا قوميا لا فرديا.
فالمتأمل في المشهد اللغويّ الكوني يجد أنّ العالم اليوم يحتكم في قسمته اللغوية لنفس ما يحتكم إليه في تصنيفاته الحضاريّة، فاللغات في الخطاب الإعلاميّ الكونيّ نوعان: أحدهما لغات مغلوبة متهَمة، كثيرا ما ينبري أصحابها يتبرؤون مما ينسب إليهم وإليها. والثاني لغات غالبة متهِمة قليلا ما يتنازل أصحابها عما يكيلونه من تهم. فالمتكلمون بلغة معينة يضفون على لغتهم بمكانتهم الحضارية ما هو في الأصل صفة لهم هم لا للغة التي يتكلمون بها. وإنما أساس ذلك أنّ اللغة ثوب المجتمعات وترجمانها. وبمصطلحات البلاغيين كثيرا ما ينسب الشيء إلى غير قرينه، وذلك فيما يؤلف عند أهل الذكر قسما كاملا من المجاز هو المجازات المرسلة والعقلية.
وأن تكون اللغة ثوب الحضارة معناه أنّ ما يطرأ على المجتمعات من العلل يشفّ به ثوبها اللغويّ، ولذلك كثيرا ما يشبه اللسانيون ما يظهر على اللغات من اعتلال بما يظهر على الأجسام من حمّى، فالحمى في تقدير الطبيب العارف هي من الأعراض لا الأمراض، ولذلك يكون من عبث الجاهلين بالطب تطبيب الحمّى وترك العلة.
وفي الشأن اللغويّ يرتبط كل دين بلغة، ولكنّ كلَّ لغة ترتبط بنص مقدّس مصيرها أن تجمد فتموت لعدم مواكبتها قوانين التطور التي تجري على اللغة وعلى غيرها من الكائنات الطبيعية والتاريخية على السواء، ولكن ما يربك اطّراد هذا القانون فيجعله لا يرقى إلى مستوى الكلّيّة اللغوية هو شذوذ اللغة العربية عن هذا القانون، فقد ارتبطت اللغة العربية بالإسلام والقرآن وظلت حية فاعلة. وعبر التاريخ لم تظفر أيّ لغة من الدين الذي ارتبطت به مقدار ما ظفرته العربية من ارتباطها بالقرآن والإسلام. وحتى الذين يبدون جحودا لهذا الفضل فإنه لا يمكنهم بأي حال من الأحوال إنكار الترابط بين دين الإسلام ولسان العرب. وتقديرنا أنّ غياب الاستثمار الإيجابي للعلاقة بين الإسلام والعربية هو ما فتح الباب لكل من أراد بهذه العلاقة حيفًا على منوال من وصلوا العربية بالإرهاب.
لقد سُخّرت السينما العربية في قسم كبير منها لإرساء ترابط متين بين العربية الفصحى والإرهاب، حتى إن انتظارات المشاهد غدت تتجه بتلقائية إلى استشرافات محددة كلما تخللت العربيةُ الفصحى مسارَ الأحداث في المسلسلات أو الأفلام، وحسْبُ المتابع لذلك ثلاثة أمثلة[7]؛ أولها جعل اللغة العربية في المشاهد التمثيلية السنيمائية والمسرحية لغة كل الشخصيات ذات الخلفيات الدينية المتطرفة والتي تمارس العنف، وحتى إن كانت هذه الشخصيات تتكلم اللهجة اليومية فإنها إذا أقدمت على فعل إرهابي أو اجتماع إعدادي لذلك، فإنّ اللغة العربية الفصحى تكون الحامل اللغوي لذلك. ويضفي السجلّ القرآني على كلام الشخصيات صرامة عالية تنزع عن الشخصية نسبية الفكرة ومرونة الحسّ الإنسانيّ. وهذه الصورة ترسّخها التصريحات التي تقدّم في وسائل الإعلام بعد كل عملية، فكأنّ من مقومات صدقية تصريحات المجموعات الجهادية أن تكون بلغة عربية فصيحة قرآنية السّجلّ.
والمثال الثاني الذي ترسخه السينما المصرية للغة العربية في ذاكرة المشاهد العربي هو صورة الشخصية الأنكد النَّكِد، وهي تتكلم بلغة عربية تفسد متعة غيرها من الشخصيات المتمتعة بزينة الحياة ولهوها، وبالنحت الهادئ المستمر على الذاكرة ترسّخت صور نمطية في الذهن، وانطلاقا مما تفضي إليه لعبة القرائن في نظرية الانعكاس الشرطي لبافلوف تنشأ مجموعة من ردود الفعل المشروطة، فبشكل غير واع يجد المشاهد نفسه في مفاضلة متجددة متواترة بين نكد وحزن قرينيْ عربية قديمة آتية بقيمها وأصواتها وضوابطها من أزمنة سحيقة غريبة في تصوره، وبين فرح ونشوة لصيقيْ لهجة عامية تحاك صورتها باعتبارها الأحرى لتكون لسانا بديلا ما دامت هي الأسلم قيما ورؤية.
على هذا النحو ترسخت صورة نمطية للغة العربية في منتهى السلبية، وامتدت من المستوى الحكائي الجادّ إلى المستوى الهزليّ الذي يرسّخ في الأذهان أخطر الأفكار عبر النحت الهادئ، وأكثر هذه المشاهد خطرا وتواترا هي صورة يلهي المشاهدَ الحصيفَ والبسيطَ إضحاكُها عمّا فيها من أبعاد. ونقصد صورة عدل الإشهاد –أي “المأذون”- وهو يظهر في زيّ ناشز عن محيطه ومفتعلا للغة عربية تجعله بحكم النشاز محطّ سخرية الجميع، حتى إن مشهد عدل الإشهاد قد غدا المقطع الثابت الذي تُقْطَع به رتابة الأحداث. ولهذا المشهد النمطيّ امتداد في غيره من المشاهد حيث تكون ملازمة اللغة العربية سمة الشخصيات الناشزة والخارجة عن التاريخ.
إن هذا النحت الهادئ والمستمر للصورة السلبية للغة العربية يتضح بقياسِ خُلْفٍ انطلاقا من أن الآلة الإعلامية الكونية لا تفعل فعلها حين يتعلق الأمر بغير المرجعية العربية الإسلامية، فبشكل متزامن شهد العالم في يوليو 2016 أحداثا إرهابية في إسطنبول بتركيا وفي نيس بفرنسا وفي ميونيخ بألمانيا وفي دارٍ للمسنين باليابان. ولكن تعامل الآلة الإعلامية المتحكمة أبى إلا أن يكون على نهجه الانتقائي؛ فأعاد إلى الأذهان عمى هذه الآلة عن محارق مسلمي بورما وأفريقيا الوسطى ومجازر الأنظمة العربية.
وبذلك يخلص الباحث إلى أن موضوع الإرهاب في مخابر الإعلام والسياسة يكفّ عن أن كون واقعا ليكون مجرّد شرطِ انسجامِ خطابٍ، والذي يصل الممارسة السياسية بالخطاب السياسي في التاريخ الأمريكي يجد أنّه بداية من بيل كلنتون ومرورا بجورج بوش وانتهاء بباراك أوباما جنى الخطاب الرئاسي من أسباب الاستمرار والانسجام مقدار ما جنته الإنسانية من ويلات إرهاب نُسب إلى القاعدة على عهد كلينتون وإلى طابان على عهد جورج بوش، ثم إلى داعش على عهد أوباما، ولا يخفى ما قد يوعز به هذا المسار من استشراف للمستقبل.
إن الإرهاب هو معنى قبل أن يكون ممارسة وجريمة عينيّةً، فعلى هذا النحو يجب أن يُفهم ما نسمعه من تبني جهات محددة لعمل إرهابيّ، فهو تبني تزكية لا تبني مسؤولية. وبهذا التصادي بين الجرائم الإرهابية فعلا وتبنيا غدا الإرهاب وجودا معنويا لا موجودا ماديا. وباستعارة من تقانة هذا العصر، إنما الإرهاب برمجيات وعقل يتحرك في فضاء معلوماتي وإعلامي منفتح، وليس بالضرورة جسما ماديا يتحرك وفق الشروط الفيزيائية المعروفة للكيانات المادية. وشأن السياسي الذي يعالج المسائل الإرهابية عسكريا كشأن الحاسوبي الذي يصيب حاسوبَه فيروس فيبحث عن العلاج في العتاد لا في البرامج التي تسكنه.
وعلى هذا النحو يكون من الصلف غير الحكيم أن يسلط السلاح على حامل الفكرة ظنا بأن السلاح سيصيب الفكرة إذ يصيب حاملها. فللمعنى في جسم اللغة امتداد وحياة يقتضي أن يواجَهَ الفكر بالفكر لا أن يقارع الفكرُ بالسلاحِ وإن كان السلاح من أعتى ما توصل إليه الإنسان. وإن لمستقرئ التاريخ لشواهد كثيرة على أن للأفكار عنادا وثباتا يجعل للفكرة حياة وامتدادا متجددين في ثوب اللغة نفسه. وأن تكون المسألة اللغوية غلاف الإرهاب في كل أبعاده السياسية والاقتصادية والإيديولوجية، فإنّ ما يحتاجه العالم اليوم هو اللغة العاقلة التي تخاطب العقل بالعقل لا العقلَ بالسلاح.
إنّ للغة ذاكرةً ستكون للقادم من التاريخ حجة الإنسان في اقتفاءِ سعيٍ ماكر ما فتئ أصحاب القرار يبذلونه للتلبيس ولطمس المعنى إيهاما ببراءة مزعومة. فلقد ظلّت صفة “جهادي” نعتا موسوما بكثير من الرضى، يطلقه الأمريكيون على من يدعمون من مقاتلي الروس في أفغانستان، ولفترة من الزمن لم يكن لفظ “الجهادي” ذا دلالة حافة سلبية، حتى إذا تغيرت خارطة التحالفات والعلاقات سعت وسائل الإعلام الأمريكية والغربية عموما إلى رسم صورة جديدة سلبية لحلفاء الأمس، وشيئا فشيئا تطورت الصورة دالا ومدلولا ليحل لفظ “الإرهابي” محلّ لفظ “الجهاديّ”. ومن طرائف حياة الأسماء أنّ الممثل السوري الأصل جهاد عبده قد غيّر اسمه ما إن دخل عالم السينما في هوليود الأمريكية، فعوّض اسمه “جهاد” بالجيم أول حروفه ليصير اسمه جي عبده (Jay Abdo)، وصرّح لجريدة القدس العربي بأنه إنما فعل ذلك على سبيل التقية، وأشار إلى أنه في هوليود قد يمتنع القائمون على العمل الفني عن إعطائه الدور بسبب الاسم، وأنه لا تمييز في أذهان الكثير هناك بين الاسم وما يسمعونه في وسـائل الإعـلام عن الجهاديـين والمتطرّفين. وبالاسم الجديد عرَّفته موسوعة ويكيبيديا الإنجليزية.
وتكتسب المسألة اللغوية بعدا رمزيا عاليا حين يتعلق الأمر برفض الآخر في المناسبة التي تأسست في الأصل لإعلان قبوله، ففي إطار الاحتفال بأسبوع اللغات الأجنبية ارتأت مدرسة باين بوش (Pine Bush) الثانوية (130 كم شمال غرب نيويورك) أن يؤدي الطلاب قَسَم الولاء بلغة مختلفة كل يوم، وذلك دأبا على عادة ملايين الطلاب الأمريكيين في تأدية قسم الولاء في الصف في بداية اليوم الدراسي، وهو ما يعد إجبارياً في بعض الولايات. فكان أن أدت إحدى طالبات المدرسة قسم الولاء باللغة العربية التي تتكلمها، وذلك على سبيل الإسهام في الاحتفال المخصص لأسبوع اللغات الأجنبية والتنوع، فأثار ذلك جدلا حادا في المدرسة إذ وصفت الطالبة بأنها “إرهابية” ثم تجاوز الجدل المدرسة إلى ولاية نيويورك ليتواصل على مواقع الاتصال الاجتماعيّ ويصل إلى درجة تهديد ناظر الصف في المدرسة لمناصرته للطالبة.
وفي حوار مع وكالة الأنباء الفرنسية ذكرت الناطقة باسم فرع نيويورك في مجلس العلاقات الأمريكية الإسلامية، سعدية خالق أنّ ما وقع لم يكن حدثا معزولا، وإنما وقع نظيره سنة 2013 في ولاية كولورادو حين تمّ التفاعل مع المبادرة بالتهديد وباتصالات هاتفية تنم عن الكراهية، وفي السنة نفسها اعترض أولياء الطلاب في ولاية ألاباما على إدراج العربية ضمن الدروس، وعللوا اعتراضهم بأنّ ذلك سيعلّم أبناءهم ثقافة الكراهية، وانتهى الأمر بمحاربين سابقين إلى التصريح لوسائل إعلام أمريكية بمعارضتهم أداء القسم بغير الإنجليزية.
إنّ المسألة اللغوية اليوم هي غلاف الإرهاب في كل أبعاده السياسية والاقتصادية والإيديولوجية، وما يحتاجه العالم اليوم هو الخطاب الحكيم الذي لا يستثمر معنى الإرهاب بحثا عن مشروعيةِ قرار أو موقع، فمن المنظورين اللسانيّ والتداوليّ اكتسب لفظ الإرهاب عبر الاستعمال المكثف وظائف خِطابية وخَطابية تكشف عن أزمة أخلاقية في سياسة إنسان هذا الزمان للكون، وهي الأزمة التي سيؤول استفحالها إلى عدمية وعبثية متى لم يعد في الكون معنى يتشبث به الإنسان.
د. حسين السوداني
[1] عبد السلام المسدي، الهوية العربية والأمن اللغوي، دراسة وتوثيق، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت 2014، ص 12.
[2] نفسه، ص 30.
[3] التعريف بلفظه الإنجليزي هو
“Terrorism is the unlawful use of force and violence against persons or property to intimidate or coerce a government, the civilian population, or any segment thereof, in furtherance of political or social objectives.”
[4] نصه الإنجليزي هو
” Terrorism is the unlawful use of violence and intimidation, especially against civilians, in the pursuit of political aims
[5] لفظه الإنجليزي هو
” Terrorism violent action for political purposes »
[6] النصّ الفرنسيّ هو
Le terrorisme est l’ensemble d’actes de violence (attentats, prises d’otages, etc.) commis par une organisation pour créer un climat d’insécurité, pour exercer un chantage sur un gouvernement, pour satisfaire une haine à l’égard d’une communauté, d’un pays, d’un système.
[7] توسعنا في ذلك في بحث نشرناه في العدد التاسع والثمانين من مجلة الدوحة بعنوان “اللغة العربية والإسلاموفوبيا”