اللغة والإرهاب

اللغة والإرهاب

د. حسين السودانيhoucine

يتجاور ثالوث العربية والإسلام والإرهاب في الخطاب الإعلاميّ المعاصر على نحو ماكر، فكثيرا ما يُدَسّ قياس مغالطيّ نتيجته أنّ العربية لغة إرهاب، ويتحقق هذا القياس عبر عمليات تحويل وإيهام، فقد روّجت خطابات العولمة أنّ “الإسلام هو الإرهاب وأن الإرهاب هو الإسلام، ثم روّجت أن الإسلام هو العربُ وأن العربَ هم الإسلام، فبدا الاستنباط حتميّا بالضرورة: أن اللغة التي بها جاء الإسلام وبها نزل نصّه المقدّس تحمل في كيانها بذور العنف وَمَنابت البغضاء، فهي بذاتها عدوانيّة تسوّق الكرْه وتحرّض على الإقصاء”[1].

فعلى هذا النحو تُستدرج الأذهان إلى مغالطة فيما كان يسميه سقراط قياسا سفسطائيا، وهو القياس الذي يتدرج في الاستدلال من خلال ما يزعمه من تماهٍ بين ثنائيات متباعدة نحو: الإسلام والإرهاب، فالإسلام والعرب، فالعرب والإرهاب، ثم الإسلام مع العرب والعربية، فالعربية والإرهاب[2]. ويخدم هذا القياسَ المغالطيَّ في أذهان الناس التباسُ تعريف الإرهاب نفسه، فشأن جريمة الإرهاب في أبعادها السياسية كشأن جريمة التحرش الجنسي في حدودها المدنية؛ كلاهما يضيّق ويوسّع بفعل فاعل. ففي الجريمة الإرهابية كما في التحرش الجنسي يمكن توسيع الحدود وتضييقها بتأويل مؤوّل.

لذلك يعتبر تعريف الإرهاب العقبة الكأداء لكلّ الناظرين في هذه الظاهرة إما عمليا كما في السياقات القضائية والسياسية، وإما نظريا كما في السياقات اللسانية أو القانونية، وصعوبة التعريف جعلت التخوم غائمة بين الجريمة الإرهابية وغيرها من الجرائم.

إنّ تواتر ربط الكثير مما يعد جرائم إرهابية بخلفية دينية إسلامية هو ما حدّد لكلّ من المجامع البحثية الإسلامية واللغوية العربية أفقا تعريفيا مسكونا بهاجس تبرئة النفس والدفاع عن الهوية العربية الإسلامية من أن تكون خلفية للإرهاب، وهو أمر جعل هذه التعريفات الموضوعة في سياق عربيّ تفتقر إلى التقنيّة التي يفاجَأ بها الباحث في الأطر البحثية الغربية، وذلك على النحو الذي سنفصله لاحقا.

لقد سعى المجمع الفقهي الإسلامي من جهة ومجمع اللغة العربية من جهة ثانية في إطارين بحثيين منسجمين ومتكاملين إلى تطويق مصطلح الإرهاب بتعريف ينسجم والإطار التصوّريّ العربي الإسلاميّ، ولكنّ من يقرأ تعريفيهما يجدهما لا يخلوان من أمرين: أولهما التبرؤ من أن تكون ظاهرة الإرهاب من الإسلام، والثاني تأكيد أنّ الإرهاب سليل التطرف وأنه ظاهرة عالمية ليست لصيقة دين أو قوم. فلذلك سعى المجمع الفقهي الإسلامي في اجتماعه المنعقد في العاشر من يناير سنة ألفين واثنتين في رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة في دورته السادسة عشرة إلى صياغة تعريف بمقتضاه عرّف الإرهاب بأنه “ظاهرة عالمية لا ينسب لدين، ولا يختص بقوم، وهو ناتج عن التطرف الذي لا يكاد يخلو منه مجتمع من المجتمعات المعاصرة. وهو العدوان الذي يمارسه أفراد أو جماعات أو دول بغيًا على الإنسان (دينه ودمه وعقله وماله وعرضه) ويشمل صنوف التخويف والأذى والتهديد والقتل بغير حق، وما يتصل بصور الحرابة ، وإخافة السبيل ، وقطع الطريق ، وكل فعل من أفعال العنف أو التهديد ، يقع تنفيذا لمشروع إجرامي فردي أو جماعي ، ويهدف إلى إلقاء الرعب بين الناس أو ترويعهم بإيذائهم أو تعريض حياتهم أو حريتهم أو أمنهم أو أحوالهم للخطر ومن صنوفه إلحاق الضرر بالبيئة أو بأحد المرافق والأملاك العامة أو الخاصة ، أو تعريض أحد الموارد الوطنية أو الطبيعية للخطر”

وينسجم هذا التعريف مع الإطار المعجميّ الذي وضعه مجمع اللغة العربية مستندا إلى تعريف المجمع الفقهي الإسلاميّ، فقد صاغ مجمع اللغة العربية على شبكة الانترنيت تعريفا لمصطلح الإرهاب في شكل قرار، ووسمُ التعريف بأنه قرار قد يؤّوله البعض على أنه تفاعل مع واقع أكثر مما يعني تطورا تلقائيا داخل اللغة، وقد جاء القرار بتوقيع وختم من مجمع اللغة العربية على الشبكة العالمية ومقره مكة المكرمة، وتمّ تذييل التعريف بتفصيل تضمن ما صدر عن المجمعيين من  آراء وتفاعلات ومراسلات بخصوص المسألة، وجُمع كل ذلك كله بعنوان “تفصيل ما انبثق عن الحراك المجمعيّ في هذا الموضوع الجلل”.

أما نصّ التعريف فقد صيغ على مستويين لغوي واصطلاحيّ، ثانيهما مبني على الأول. فمحتوى التعريف اللغوي للإرهاب أنه “هو الإخافة والتفزيع”، ومتن التعريف الاصطلاحي له أنه “الإخافة والتفزيع بغير حقّ بالسعي في الأرض فسادا أو بقتل من احتلال أو غصب أو نهب من رد عادٍ أو فئة باغية أو دولة ظالمة”.

ولا يخفى على القارئ ما في هذين التعريفين من بعد دفاعيّ وسعْي إلى تطويق المعنى بعبارة عربية ذات سجلّ قرآنيّ. وفي ذلك ما قد يجعل التعريف في عين خصومه محليا تبريريا لا كونيا تقنيا. وتتضح خصوصية التعريف في خلفيتيه المجمعيتين -اللغوية العربية والفقهية الإسلامية- انطلاقا من مقارنته بأطر تعريفية أخرى مثل التعريف الذي اصطلحت عليه وكالة الاستخبارات الأمريكية (FBI) إذ تعرّف الإرهاب بأنه “الاستخدام غير القانوني للقوة والعنف ضدّ الأفراد والممتلكات بهدف إحداث ترويع أو إكراه لحكومة أو سكان مدنيين أو لأي جزء منهما بغاية تحقيق أهداف سياسية أو اجتماعية”[3].

وكذلك الأمر في معجم أوكسفورد إذ يعرّف الإرهاب بأنه “الاستخدامُ غير القانوني للعنف والترويع ضدّ المدنيين خصوصا، وذلك سعيا لتحقيق أهداف سياسية “[4].

ويختزل معجم كمبريدج هذا التعريف في عبارة توجز الإرهاب في أنه يتمثل في عمل العنف الذي يهدف إلى أغراض سياسية[5]

وأما معجم لاروس فيعرّف الإرهاب بأنه مجموع أعمال العنف من هجمات واحتجاز رهائن وغير ذلك مما ترتكبه منظمة لإحداث مناخ من انعدام الأمن ابتزازا لحكومة أو امتثالا لنوازع كراهية تجاه مجموعة أو بلد أو نظام[6]

ما نخلص إليه من ذلك أنّ الإرهاب في الدوائر الغربية يعرَّف على نحوين: أحدهما تعريفه التقنيّ العامّ، وهو تعريف الدوائر البحثية، وبناؤه نظريّ يسعى إلى استيعاب كلّ أوجه العنف التي تهدد سطوة الدولة واستقرار المجتمع. والتعريف الثاني عرضيّ؛ وهو التعريف الذي يطفو على ساحة الخطابين الإعلاميّ والسياسي كلما حصل عمل يوصف بأنه إرهابيّ. وميزة هذا التعريف أنه انفعاليّ ولا يكاد يلتزم من مكونات التعريف العامّ السابق إلا بربط الإرهاب بتهديد سطوة الدولة واستقرار المجتمع.

من كلّ ذلك تشكلَ لظاهرة الإرهاب إطاران تصوريان مختلفان بين الغرب الذي يُدين ويتهم ويرى نفسه ضحية، والسياق العربي الإسلاميّ الذي يبرّئ نفسه ويستبق كلّ اتهام بشجب الأعمال الإرهابية وإدانة كلّ من يفعلها أو يتبناها أو يشجع عليها. ومقتضى هاتين الوضعيتين نشوء مواضعة غدت تجري في الأذهان والخطابات مجرى القانون مفادها أنّ الغربيَّ المتهِمَ بريء أبدا وأنّ المسلم المتبرئ متهَم دائما.

وعلى هذا النحو تسرب إلى الأذهان تلازمٌ ترسَّخَ بقصد أو بغيره بين كل حدث إرهابي من جهة، وثنائيّ العربية والإسلام من جهة ثانية. فما إنْ يعلن عن عمل إرهابي حتى ينبري كل من له صلة بالعروبة والإسلام يبرّئ نفسه من أن يُتَّهم. وخلافا للأصل في القوانين الكونية، يغدو هذا المتبرئُ متهَما حتى تثبت براءته. ومن المفارقات أنّ هذا “المتهَم دائما” قد استبطن هذه التهمة حتى غدت حسب مصطلح بافلوف (Pavlov) جزءا من انعكاساته الشرطية التي ينفعل بها لكلّ طارئ. وهو الأمر الذي كثيرا ما استثمره المستثمرون طالما أنّ ثمة متهَّما هو الأحرى بالتهمة في كلّ الأحوال؛ فيكفي أن يُدرَج في مسرح الأحداث أثر من لسان العرب أو من القرآن ليكون قرينة تحصر دائرة الاتهام بين العروبة والإسلام، وإن تعلق الأمر بقرينة لا ترقى حجيتها إلى درجة الإثبات. وكثيرا ما كان الاتهام بسبب حمل رمز عربيّ على نحو ما وقع في أحداث مدينة نيس الفرنسية في يوليو 2016 حين هوجم صحافيّ قناة “العربية” لمجرد حمله شارة قناة بلفظ عربيّ.

عند هذا المستوى يكفّ إسلام المسلم عن أن يكون انتماء عقديا ليصبح انتماء حركيا، فلذلك يقوم النعتُ “إسلاميٌّ” (Islamist) مقام الصفة “مسلم” (Muslim) وبشكل متنامٍ. وهو لَبْس اشتغلت عليه الآلة الإعلامية الغربية كثيرا إبان حرب البوسنة والهرسك، حتى غدا أكثرها يصف سكان البلاد من المسلمين بأنهم إسلاميون، وهو تدرّج يهيّء للتدحرج بهم إلى خانة الإرهاب.

وعلى هذا النحو يتكرس اليوم وبسعي حثيث انعكاس شرطيّ على درجة عالية من الخطورة، بمقتضاه يتجه الإعلام والاتهام عند كلّ جريمة دولية إلى البحث عن أثر من اللغة العربية، حتى تثبت التهمة بقرينة التلازم بين لسان العرب ودين الإسلام. وذلك في ضرب من الانفعال يتنامى طرديا مع كلّ جريمة دولية. ومن المعلوم في علم نفس الجريمة أنه بالإصرار والتكرار ينخرط الضحية نفسُه في انفعالات جلاده، سيان في ذلك أن يكون بريئا أو مجرما، حتى إنّك تجد اليوم كثيرا من أهل العربية يستبقون الاتهام بالتبرؤ والإدانةَ بالتفصّي. ومن كلّ ذلك انخرط العربيّ بدرجة أولى بهويته اللغوية قبل المسلم الذي قد لا يكون عربيا فيما نحت له مصطفى حجازي مصطلح استبطان القهر.

إنّ من المعلوم في المسألة اللغوية أنّه كيفما يكون المتكلمون تكون لغتهم، ومن العبث سعي البعض إلى البحث عن جذور قديمة لإرهاب لغويّ خُصَّت به العربية في تاريخ اللغات، فكلّ اللغات تنحطّ مكانتها وتعلو بانحطاط أوضاع متكلميها، ولو كان الأمر على غير هذا القانون لكان اللسان العبريّ الأوْلى بأن لا يكون متداولا اليوم، فمن ناحية لم يكن لهذا اللسان قبل قيام الدولة العبرية تداول يذكر، ومن ناحية ثانية بُعث هذا اللسان مسْخا من العبرية القديمة ليكون لسانَ كيانٍ مغتصب فرَضَ الدولةَ ولغتها. وعلى هذا النحو تَجدُ وضع كلّ لغة جنيسَ وضعِ متكلميها: تزدهر بازدهارهم وتنحطّ بانحطاطهم. ولكن الظواهر كثيرا ما تلتبس على الأفهام فيُظنّ السبب نتيجة، وتعدّ النتيجة سببا.

ومن ملامح السطحية الساذجة في المسألة اللغوية أمران؛ أولهما الاكتفاء بظواهر الأمور والتسليم بما يقود إليه الحسّ المشترك في الشأن اللغوي، والثاني هو الاستغناء بالراهن القريب عن غيره من العوامل في تفسير الحاضر؛ ذلك أنّ المسألة اللغوية ليست في حياة الشعوب والأفراد من بنات اللحظة القريبة، وإنما هي حاضنة الثقافة وخزان المعارف ومحرّك الأحاسيس وعنوان الهوية. وكما أن ذلك كله يتأسس بتغيرات مجهرية على مر القرون وعبر التاريخ، فإنّ التخطيط له إنما يتحقق بتأني الصبور المتبصر وحرص الثابت المثابر، وهو أمر يقتضي وعيا قوميا لا فرديا.

فالمتأمل في المشهد اللغويّ الكوني يجد أنّ العالم اليوم يحتكم في قسمته اللغوية لنفس ما يحتكم إليه في تصنيفاته الحضاريّة، فاللغات في الخطاب الإعلاميّ الكونيّ نوعان: أحدهما لغات مغلوبة متهَمة، كثيرا ما ينبري أصحابها يتبرؤون مما ينسب إليهم وإليها. والثاني لغات غالبة متهِمة قليلا ما يتنازل أصحابها عما يكيلونه من تهم. فالمتكلمون بلغة معينة يضفون على لغتهم بمكانتهم الحضارية ما هو في الأصل صفة لهم هم لا للغة التي يتكلمون بها. وإنما أساس ذلك أنّ اللغة ثوب المجتمعات وترجمانها. وبمصطلحات البلاغيين كثيرا ما ينسب الشيء إلى غير قرينه، وذلك فيما يؤلف عند أهل الذكر قسما كاملا من المجاز هو المجازات المرسلة والعقلية.

وأن تكون اللغة ثوب الحضارة معناه أنّ ما يطرأ على المجتمعات من العلل يشفّ به ثوبها اللغويّ، ولذلك كثيرا ما يشبه اللسانيون ما يظهر على اللغات من اعتلال بما يظهر على الأجسام من حمّى، فالحمى في تقدير الطبيب العارف هي من الأعراض لا الأمراض، ولذلك يكون من عبث الجاهلين بالطب تطبيب الحمّى وترك العلة.

وفي الشأن اللغويّ يرتبط كل دين بلغة، ولكنّ كلَّ لغة ترتبط بنص مقدّس مصيرها أن تجمد فتموت لعدم مواكبتها قوانين التطور التي تجري على اللغة وعلى غيرها من الكائنات الطبيعية والتاريخية على السواء، ولكن ما يربك اطّراد هذا القانون فيجعله لا يرقى إلى مستوى الكلّيّة اللغوية هو شذوذ اللغة العربية عن هذا القانون، فقد ارتبطت اللغة العربية بالإسلام والقرآن وظلت حية فاعلة. وعبر التاريخ لم تظفر أيّ لغة من الدين الذي ارتبطت به مقدار ما ظفرته العربية من ارتباطها بالقرآن والإسلام. وحتى الذين يبدون جحودا لهذا الفضل فإنه لا يمكنهم بأي حال من الأحوال إنكار الترابط بين دين الإسلام ولسان العرب. وتقديرنا أنّ غياب الاستثمار الإيجابي للعلاقة بين الإسلام والعربية هو ما فتح الباب لكل من أراد بهذه العلاقة حيفًا على منوال من وصلوا العربية بالإرهاب.

لقد سُخّرت السينما العربية في قسم كبير منها لإرساء ترابط متين بين العربية الفصحى والإرهاب، حتى إن انتظارات المشاهد غدت تتجه بتلقائية إلى استشرافات محددة كلما تخللت العربيةُ الفصحى مسارَ الأحداث في المسلسلات أو الأفلام، وحسْبُ المتابع لذلك ثلاثة أمثلة[7]؛ أولها جعل اللغة العربية في المشاهد التمثيلية السنيمائية والمسرحية  لغة كل الشخصيات ذات الخلفيات الدينية المتطرفة والتي تمارس العنف، وحتى إن كانت هذه الشخصيات تتكلم اللهجة اليومية فإنها إذا أقدمت على فعل إرهابي أو اجتماع إعدادي لذلك، فإنّ اللغة العربية الفصحى تكون الحامل اللغوي لذلك. ويضفي السجلّ القرآني على كلام الشخصيات صرامة عالية تنزع عن الشخصية نسبية الفكرة ومرونة الحسّ الإنسانيّ. وهذه الصورة ترسّخها التصريحات التي تقدّم في وسائل الإعلام بعد كل عملية، فكأنّ من مقومات صدقية تصريحات المجموعات الجهادية أن تكون بلغة عربية فصيحة قرآنية السّجلّ.

والمثال الثاني الذي ترسخه السينما المصرية للغة العربية في ذاكرة المشاهد العربي هو صورة الشخصية الأنكد النَّكِد،  وهي تتكلم بلغة عربية تفسد متعة غيرها من الشخصيات المتمتعة بزينة الحياة ولهوها، وبالنحت الهادئ المستمر على الذاكرة ترسّخت صور نمطية في الذهن،  وانطلاقا مما تفضي إليه لعبة القرائن في نظرية الانعكاس الشرطي لبافلوف  تنشأ مجموعة من ردود الفعل المشروطة، فبشكل غير واع يجد المشاهد نفسه في مفاضلة متجددة متواترة بين نكد وحزن قرينيْ عربية قديمة آتية بقيمها وأصواتها وضوابطها من أزمنة سحيقة غريبة في تصوره، وبين فرح ونشوة لصيقيْ لهجة عامية تحاك صورتها باعتبارها الأحرى لتكون لسانا بديلا ما دامت هي الأسلم قيما ورؤية.

على هذا النحو ترسخت صورة نمطية للغة العربية في منتهى السلبية، وامتدت من المستوى الحكائي الجادّ إلى المستوى الهزليّ الذي يرسّخ في الأذهان أخطر الأفكار عبر النحت الهادئ، وأكثر هذه المشاهد خطرا وتواترا هي صورة يلهي المشاهدَ الحصيفَ والبسيطَ إضحاكُها عمّا فيها من أبعاد. ونقصد صورة عدل الإشهاد –أي “المأذون”- وهو يظهر في زيّ ناشز عن محيطه ومفتعلا للغة عربية تجعله بحكم النشاز محطّ سخرية الجميع، حتى إن مشهد عدل الإشهاد قد غدا المقطع الثابت الذي تُقْطَع به رتابة الأحداث. ولهذا المشهد النمطيّ امتداد في غيره من المشاهد حيث تكون ملازمة اللغة العربية سمة الشخصيات الناشزة والخارجة عن التاريخ.

إن هذا النحت الهادئ والمستمر للصورة السلبية للغة العربية يتضح بقياسِ خُلْفٍ انطلاقا من أن الآلة الإعلامية الكونية لا تفعل فعلها حين يتعلق الأمر بغير المرجعية العربية الإسلامية، فبشكل متزامن شهد العالم في يوليو 2016 أحداثا إرهابية في إسطنبول بتركيا وفي نيس بفرنسا وفي ميونيخ بألمانيا وفي دارٍ للمسنين باليابان. ولكن تعامل الآلة الإعلامية المتحكمة أبى إلا أن يكون على نهجه الانتقائي؛ فأعاد إلى الأذهان عمى هذه الآلة عن محارق مسلمي بورما وأفريقيا الوسطى ومجازر الأنظمة العربية.

وبذلك يخلص الباحث إلى أن موضوع الإرهاب في مخابر الإعلام والسياسة يكفّ عن أن كون واقعا ليكون مجرّد شرطِ انسجامِ خطابٍ، والذي يصل الممارسة السياسية بالخطاب السياسي في التاريخ الأمريكي يجد أنّه بداية من بيل كلنتون ومرورا بجورج بوش وانتهاء بباراك أوباما جنى الخطاب الرئاسي من أسباب الاستمرار والانسجام مقدار ما جنته الإنسانية من ويلات إرهاب نُسب إلى القاعدة على عهد كلينتون وإلى طابان على عهد جورج بوش، ثم إلى داعش على عهد أوباما، ولا يخفى ما قد يوعز به هذا المسار من استشراف للمستقبل.

إن الإرهاب هو معنى قبل أن يكون ممارسة وجريمة عينيّةً، فعلى هذا النحو يجب أن يُفهم ما نسمعه من تبني جهات محددة لعمل إرهابيّ، فهو تبني تزكية لا تبني مسؤولية. وبهذا التصادي بين الجرائم الإرهابية فعلا وتبنيا غدا الإرهاب وجودا معنويا لا موجودا ماديا. وباستعارة من تقانة هذا العصر، إنما الإرهاب برمجيات وعقل يتحرك في فضاء معلوماتي وإعلامي منفتح، وليس بالضرورة جسما ماديا يتحرك وفق الشروط الفيزيائية المعروفة للكيانات المادية. وشأن السياسي الذي يعالج المسائل الإرهابية عسكريا كشأن الحاسوبي الذي يصيب حاسوبَه فيروس فيبحث عن العلاج في العتاد لا في البرامج التي تسكنه.

وعلى هذا النحو يكون من الصلف غير الحكيم أن يسلط السلاح على حامل الفكرة ظنا بأن السلاح سيصيب الفكرة إذ يصيب حاملها. فللمعنى في جسم اللغة امتداد وحياة يقتضي أن يواجَهَ الفكر بالفكر لا أن يقارع الفكرُ بالسلاحِ وإن كان السلاح من أعتى ما توصل إليه الإنسان. وإن لمستقرئ التاريخ لشواهد كثيرة على أن للأفكار عنادا وثباتا يجعل للفكرة حياة وامتدادا متجددين في ثوب اللغة نفسه. وأن تكون المسألة اللغوية غلاف الإرهاب في كل أبعاده السياسية والاقتصادية والإيديولوجية، فإنّ ما يحتاجه العالم اليوم هو اللغة العاقلة التي تخاطب العقل بالعقل لا العقلَ بالسلاح.

إنّ للغة ذاكرةً ستكون للقادم من التاريخ حجة الإنسان في اقتفاءِ سعيٍ ماكر ما فتئ أصحاب القرار يبذلونه للتلبيس ولطمس المعنى إيهاما ببراءة مزعومة. فلقد ظلّت صفة “جهادي” نعتا موسوما بكثير من الرضى، يطلقه الأمريكيون على من يدعمون من مقاتلي الروس في أفغانستان، ولفترة من الزمن لم يكن لفظ “الجهادي” ذا دلالة حافة سلبية، حتى إذا تغيرت خارطة التحالفات والعلاقات سعت وسائل الإعلام الأمريكية والغربية عموما إلى رسم صورة جديدة سلبية لحلفاء الأمس، وشيئا فشيئا تطورت الصورة دالا ومدلولا ليحل لفظ “الإرهابي” محلّ لفظ “الجهاديّ”.  ومن طرائف حياة الأسماء أنّ الممثل السوري الأصل جهاد عبده قد غيّر اسمه ما إن دخل عالم السينما في هوليود الأمريكية، فعوّض اسمه “جهاد” بالجيم أول حروفه ليصير اسمه جي عبده (Jay Abdo)، وصرّح لجريدة القدس العربي بأنه إنما فعل ذلك على سبيل التقية، وأشار إلى أنه في هوليود قد يمتنع القائمون على العمل الفني عن إعطائه الدور بسبب الاسم، وأنه لا تمييز في أذهان الكثير هناك بين الاسم وما يسمعونه في وسـائل الإعـلام عن الجهاديـين والمتطرّفين. وبالاسم الجديد عرَّفته موسوعة ويكيبيديا الإنجليزية.

وتكتسب المسألة اللغوية بعدا رمزيا عاليا حين يتعلق الأمر برفض الآخر في المناسبة التي تأسست في الأصل لإعلان قبوله، ففي إطار الاحتفال بأسبوع اللغات الأجنبية ارتأت مدرسة باين بوش (Pine Bush) الثانوية (130 كم شمال غرب نيويورك) أن يؤدي الطلاب قَسَم الولاء بلغة مختلفة كل يوم، وذلك دأبا على عادة ملايين الطلاب الأمريكيين في تأدية قسم الولاء في الصف في بداية اليوم الدراسي، وهو ما يعد إجبارياً في بعض الولايات. فكان أن أدت إحدى طالبات المدرسة قسم الولاء باللغة العربية التي تتكلمها، وذلك على سبيل الإسهام في الاحتفال المخصص لأسبوع اللغات الأجنبية والتنوع، فأثار ذلك جدلا حادا في المدرسة إذ وصفت الطالبة بأنها “إرهابية” ثم تجاوز الجدل المدرسة إلى ولاية نيويورك ليتواصل على مواقع الاتصال الاجتماعيّ ويصل إلى درجة تهديد ناظر الصف في المدرسة لمناصرته للطالبة.

وفي حوار مع وكالة الأنباء الفرنسية ذكرت الناطقة باسم فرع نيويورك في مجلس العلاقات الأمريكية الإسلامية، سعدية خالق أنّ ما وقع لم يكن حدثا معزولا، وإنما وقع نظيره سنة 2013 في ولاية كولورادو حين تمّ التفاعل مع المبادرة بالتهديد وباتصالات هاتفية تنم عن الكراهية، وفي السنة نفسها اعترض أولياء الطلاب في ولاية ألاباما على إدراج العربية ضمن الدروس، وعللوا اعتراضهم بأنّ ذلك سيعلّم أبناءهم ثقافة الكراهية، وانتهى الأمر بمحاربين سابقين إلى التصريح لوسائل إعلام أمريكية بمعارضتهم أداء القسم بغير الإنجليزية.

إنّ المسألة اللغوية اليوم هي غلاف الإرهاب في كل أبعاده السياسية والاقتصادية والإيديولوجية، وما يحتاجه العالم اليوم هو الخطاب الحكيم الذي لا يستثمر معنى الإرهاب بحثا عن مشروعيةِ قرار أو موقع، فمن المنظورين اللسانيّ والتداوليّ اكتسب لفظ الإرهاب عبر الاستعمال المكثف وظائف خِطابية وخَطابية تكشف عن أزمة أخلاقية في سياسة إنسان هذا الزمان للكون، وهي الأزمة التي سيؤول استفحالها إلى عدمية وعبثية متى لم يعد في الكون معنى يتشبث به الإنسان.

د. حسين السوداني

[1] عبد السلام المسدي، الهوية العربية والأمن اللغوي، دراسة وتوثيق، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت 2014، ص 12.

[2]  نفسه، ص 30.

[3]  التعريف بلفظه الإنجليزي هو

“Terrorism is the unlawful use of force and violence against persons or property to intimidate or coerce a government, the civilian population, or any segment thereof, in furtherance of political or social objectives.”

[4]  نصه الإنجليزي هو

” Terrorism is the unlawful use of violence and intimidation, especially against civilians, in the pursuit of political aims

[5]  لفظه الإنجليزي هو

” Terrorism violent action for political purposes »

[6]  النصّ الفرنسيّ هو

Le terrorisme est l’ensemble d’actes de violence (attentats, prises d’otages, etc.) commis par une organisation pour créer un climat d’insécurité, pour exercer un chantage sur un gouvernement, pour satisfaire une haine à l’égard d’une communauté, d’un pays, d’un système.

[7]  توسعنا في ذلك في بحث نشرناه في العدد التاسع والثمانين من مجلة الدوحة بعنوان “اللغة العربية والإسلاموفوبيا”

الشعارات الرئاسية في المخابر اللسانية

الشعارات الرئاسية في المخابر اللسانية

houcine

د.حسين السوداني

قد يجوز من منظور منهجي اعتبار ما بين برنامج كلّ حملة رئاسية وشعارها بمثابة ما بين فهرس الكتاب وعنوانه؛ فمن منظور التلقي يعتبر الشعار عتبة لما بعده. ومن مداخل الأهمية في شعارات الحملات الرئاسية ما تنهض به من وظائف، فمن المنظور الزمانيّ يعدّ الشعار في مسار الرئاسة الممكنة بمثابة لحظة مكتنزة، وهو من المنظور النصّي عبارة عن خطاب مكثَّف. فلذلك يصاغ الشعار وفي ضمير صائغيه أن يرشّح لوظائف دقيقة، فمن المألوف في قوانين النظم أنّ الكلام يطول ليُفْهَم ويقصُر ليحْفَظ. ووفق هذا القانون إنما تصاغ الشعارات لتردّد. ومن ملامح أهمية الشعارات أنّك تجد حملات رئاسية يحكم الملاحظون بفشل المترشح فيها ما إن يعلن المترشح شعاره؛ فمن ذلك ما يتردد هذه الأيام من سنة 2016 من مؤاخذة للسيدة هيلاري كلينتون على الشعار الذي اتخذته في حملتها الرئاسية، وهي مؤاخذة بلغت حدّ استبعاد نجاحها في الرئاسة. والتهكم الذي طال هذا الشعار يكشف عن أنّ الشعارات قد غدت صناعة لها مخابر بحث تنتجها فتجوّد إنتاجها، وإنما جعلت الشعارات لتضطلع بما تضطلع به الخطابات الإشهارية التسويقية من وظائف إنشائية خلاصتها تجييش الجماهير وتوجيهها وجهة معينة. وهذه الوظيفة هي في الحقيقة خلاصة عدّة أبعاد محدِّدة لبنية الشعار ومآله؛ وهي الأبعاد اللسانية والحجاجية والبلاغية والنفسية الاجتماعية.

يتجلى المستوى اللسانيّ انطلاقا من الخصائص الصوتية والمعجمية والتركيبية التي يبنى عليها الشعار، فمن حيث التركيب ينبني الشعار على مساحة لفظية محدودة لا تبيح إسرافا في اللفظ؛ إذ الجماهير الهاتفة أكثر تفاعلا مع العبارة السلسة المنسابة، وفي لغات مثل اللغات الهندية الأوربية -حيث لا يوجد تمييز بين حركات طويلة وأخرى قصيرة كما في العربية- تجد المقاطع الصوتية القصيرة تنطق طويلة عند الهتاف بها. ويتجلى البناء الصوتي الواضح في شعار أوباما (Yes we can) انطلاقا من ثلاث كلمات يتكون كلّ منها من مقطع واحد؛ وهي (Yes) و(We) و(Can)، ويسمى هذا المقطع في علم الصوتيات مقطعًا متناهيَ الطولِ منغلقًا، وفي تكافؤ عدد الكلمات والمقاطع ثلاث لطائف؛ أولاها الطول الذي يناسب الحاجة إلى الترديد ومدّ الصوت، والثانية تحقيق منتهى الإيجاز، والثالثة هي تصدُّر حرفيْ الياء والسين للشعار؛ فالياء –وهي مجهورة احتكاكية – هي أقوى الحروف في سلم الوضوح السمعي، ولا يفوقها من حيث الوضوح إلا الحركات، كما أنّ السين حرف مهموس، غير أنه صفيريّ ممدود في الزمن بحكم سمتيْ الصفير والاحتكاك فيه. فلذلك ينبني هذا الشعار على الشروط الضرورية لأداء صوتيّ ناجح تردده الجماهير بشكل عفويّ. والذي يدعم هذا التناغم الصوتي قيام الشعار على تكافؤ وظيفيّ بين عدد الكلمات وعدد المقاطع، فالشعار يتألف من ثلاث كلمات، كلّ منها يتألف من مقطع.

ومن ملامح الحبكة أنّ هذه الكلمات الثلاثة مشحونة إيجابيا، فالأولّ (Yes) أي (نعم) هو حرف جواب، وهو من الناحية التركيبية يملأ محلّ الجملة إذ النحاة يسمّون هذا الحرف حرف جواب أي يستعمل ليدلّ على الإثبات الذي تفيده الجملة الخبرية التامة. والكلمة الثانية (We) أي (نحن) هي ضمير جمع متكلم، وهو من هذه الناحية يختزل الأفراد متفرقين. والكلمة الثالثة (Can)أي (نستطيع) هي في الإنجليزية فعل ناقص، ولكنه يملأ محل الفعل التام.

ولهذه الخصائص البنائية وظائف مهمة في المستوى فوق التركيبيّ المقطعي؛ فمن الناحية البلاغية العامة، يوفر هذا التركيب الدرجة القصوى من الإيجاز والتكثيف، فمن هذه الناحية يربو عدد المدلولات على الدوال، فتتحقق أعلى درجات الاقتصاد اللغوي، ونخصّ بالذكر المكون الثالث (Can)، وهو في الإنجليزية من الأفعال الناقصة المساعدة لأنّ خاصيته أنه يوجه دلالة كلّ فعل يلحقه ولا يمثل في ذاته فعلا. والاقتصار عليه يعني انفتاح التركيب لكل ما يمكن أن يرد بعده أي منتهى ما يستطاع وكلّ ما يستطاع. ويفيد هذا الفعل الناقص أنّ مضمون الفعل الذي يرد بعده ممكن، وعدم تقييد الإمكان بفعل لاحق محدد يعني إمكان تحقق كلّ ما يمكن أن يرد بعده من أفعال تسند إلى المتكلم “نحن”.

وتتحقق الطاقة الدلالية الأوفى انطلاقا من التناغم الدلالي بين الكلمات الثلاثة، فالكلمة (Yes) تتناغم دلاليا في إثباتها المطلق مع (Can) لأن كليهما يطلق الإثبات ويجعله غير مقيّد بمكون آخر في الجملة على نحو ما يقع في الجمل التي يؤطرها مفعول، وذلك فيما يبنيه علماء أصول الفقه على خلفية علم المنطق، فيميزون بين مفاهيم العلة والصفة والشرط والمانع والزمان والمكان والغاية والحصر والاستثناء واللقب، وهي الشروط التي يرتبط بها تحقق الفعل أو امتناعه.

وبذلك تتكامل دلالتا الضمير والفعل في إفادة مطلق الإثبات. وتتعزز طاقة الإثبات بأنّ كلاّ من عائد فعل جملة الجواب -وهو مضمر – وعائد الجملة المختزلة –هو مُظْهَر-لا يحيلان على غائب مجهول، وإنما يحيلان على معلوم منتهى العلم هو المتكلم نفسه، وهو ذاك الذي يُفترَض أنه المردد للشعار والمتبني له والمدافع عنه.

ومن هذه الزاوية يكون لبناء الشعار على ضمير المتكلم بعْد قيميّ مهمّ، فهو يستنهض روح المسؤولية فيمن يتعلق بهم الشعار أي الــــــــــ(نحن)، وهو أمر يمكن تفسيره انطلاقا من علم نفس الجماعات، ففي حمأة الجماهير تُتَكلم اللغة جمعا لا فرادى؛ فيحل الإنشاء محلّ الخبر، والمجاز محل الحقيقة، وبذلك تنشأ رابطة نفسية تعلو كلّ رابطة عقلية أو دينية أو عرقية، فلا خوف يعتري الفرد داخل الجماعة (We) إلا الخوف من أن يُخرَج منها، فتراه يُعمل كل حيلة للانصياع إلى المجموعة والذوبان فيها والتجانس معها، وإن اقتضى الأمر أن يوقف طاقته على التفكير؛ إذ التفكير صنو الاختلاف. هذا التماهي النفسي أعتى من كلّ ما سواه من أشكال الوحدة القومية والعرقية والدينية والعقلية، ولقد أبدى غوستاف لوبون (Gustave Le Bon) (1841-1931) تبصرا عميقا في وصف هذه الوحدة النفسية انطلاقا من مفهوم غدا لصيقا به هو “سيكولوجية الجماهير”.

فقد حصر غوستاف لوبون سيكولوجية الجماهير في خمس صفات أساسية: أولاها سرعة الانفعال والخفة والنزق، والثانية سرعة تأثرها وسذاجتها وتصديقها لأي شيء، والثالثة هي تطرفها في عواطفها على نحو يجعلها تضخم العواطف البسيطة جدا، والرابعة هي التعصب والاستبدادية والنزوع إلى المحافظة، والخامسة هي الأخلاقية.

إن الخلاصة الأساسية لهذا التوصيف لسلوك الجماهير هي أنّ الفرد يغدو يتحرك داخل الجماهير وفق منظومة طقوسية أساسها أمران؛ أولهما أنّ الفرد يتحرك محاكيا لحركة الجماعة ويلتزم بأن لا يخرج عن حركاتها وسكناتها، والثاني أنّه يندمج في الجماعة ويتكثف أمانُه الوجدانيّ بقدر ذوبانه فيها، فلذلك تعدّ السياقات الجماهيرية إطارا يكسر نازع الفردانية، وذلك رغم سلطان هذا النازع من حيث هو أكبر النوازع المحركة للإنسان الحديث على نحو ما يذهب إلى ذلك كلود ليفي ستروس (Claude Lévi-Strauss) (1908 -2009). فالفرد ينصاع للنوازع الجماعية انصياعَه لمن يؤمّه في أقدس الطقوس الدينية، وهو ما يمثل الأساس النفسي الذي تنبني عليه طقوسية الشعائر الدينية، ولأجل ذلك يرغَّب في أن تكون طقوس مثل الصلاة جماعية لا فردية. فتوسُّط ضمير الجمع المتكلم للشعار يولد حاضنة عاطفية جياشة تشكّل أرضية استعارية خصبة، ذلك أن الهيجان العاطفي ودفء الجماعة يكسران كل القيود ويطلقان عنان اللغة فيؤهّلانها لتجاوز كلّ ممتنع.

على هذا الأساس يتحقق في هذا الشعار (Yes we can) بعد حجاجيّ دقيق، وهو متحقق انطلاقا من إيحاء الشعار بأنّ سياقا حواريّا يحتويه ويؤطره. فالكلمة (Yes) هي في المنظور النحويّ التركيبي حرف جواب يقتضي سابقا له في الكلام. فهي تحتمل أحد أمرين؛ فإما هي ردّ على سؤال سائل “هل تستطيعون؟”، وإما هي استئناف يؤكد كلاما سابقا، فيكون الأصل في العبارة “نستطيع نعم نستطيع” (We can, yes we can ). فالاحتمال الأول هو كلام يمكن أن يكون لخصم مشكك، والثاني هو كلام في ضمير صاحب الشعار نفسه.

ومن هذه الزاوية يضاف عامل آخر هو من المشترك في ذاكرة الناخبين الأمريكيين، وهو ما أصبح يطلق عليه في مناهج النقد الحديثة مصطلح “التصادي”، وهو أنّ شعار أوباما (Yes we can) يحيل في الذاكرة الجماعية على شعار آخر ويجيب عن محتواه، وهو الجملة الشهيرة للزعيم مارتن لوثر كنغ (Martin Luther King) (1929-1968) سنة 1963 حين اتجه نحو ربع مليون من الأمريكيين نحو النصب التذكاريّ لإبراهام لنكولن (Abraham Lincoln) (1809 -1865) فألقى فيهم لوثر كينغ خطابا غدا يعرَف في ذاكرة الأمريكيين بخطاب (I have a dream)، وكان من مضامين الخطاب: “لدي حلم بأن يعيش  أطفالي الأربعة في يوم من الأيام في شعب لا يكون فيه الحكم على الناس بألوان جلودهم، ولكن بما تنطوي عليه أخلاقهم”.

وبين (لديّ حلم) و(نعم نحن قادرون) تكمن النوستالجيا التي تجيّش الجماهير وتحرّك سواكنهم. فتتكوّن مشهدية استعارية ذات حبكة دقيقة تستغلّ الحنينية (Nostalgia) المنغرسة في العمق العاطفي للإنسان، وهي التي تمثل أعتى المشاعر المحركة للجماهير والتي تتجلى في أسطورة العود الأبديّ كما يفصّلها ميرسيا إلياد (Mircea Eliade) (1907 -1986)، فالنوستالجيا هي المحركة لميّت المشاعر والصانعة لأنبل القيم لدى لأفراد والجماعات.

على هذا النحو تتجلى الشعارات السياسية أداة لغوية تسحر الجماهير بكثافتها اللغوية واكتنازها الدلاليّ على نحو تنفعل له الجماهير وتُجيَّش، فأكثر الجماهير المتلقية للشعارات هي جماهير انفعالية عاطفية لا تعقل الشعارات ولا تتعامل معها بما غدت مخابر تحليل الخطاب تستخدمه وتوظفه في فهم الشعارات وفي صناعتها.

 

الثورة التونسية أملا أخيرا للشعوب المضطهدة

houcine

 

 

 

 

صاحبت الثورةَ التونسية كثافةٌ لغوية استعاريةٌ كبيرة هي مما نسج إطارا تفاعليا مهمّا بين فواعل الثورة. ومن الاستعارات المتواترة اليوم استعارة تشبّه حال تونس بالشجرة الأخيرة الناجية في غابة الثورات المحترقة. ولهذه الاستعارة استعارات أخرى يمكن استخراجها منها على سبيل الترشيح حسب المصطلح البلاغي المعروف. فهذه الشجرة ملاذ وأمل، وهي للذي يريد استنبات شجيرات/ثورات جديدة مدّخَر أساسي للمستقبل.

وتتضافر معطيات عديدة لتجعل من الثورة التونسية حدثا منعطفا في تاريخ الإنسانية قاطبة. فالثورات تنشئها ملابسات وظروف محلية، هي في نهاية المطاف إرادة الشعوب في أن تتحرر من قهر قاهر داخلي أو خارجي،  ولكن تيْنك التاريخية والمحلية تغدوان كونية ورمزية بما بين المحلي في مكان مّا والمحليات في أصقاع أخرى من تشابه، فالقهر والمظالم هي من الكليات المحركة للتاريخ الإنساني.

من هذه الزاوية يتحقق للثورات امتداد جغرافي مكاني في السياق الآني، ولكنها مرشحة لامتداد زماني أهم بحكم ما توفره من دفع معنوي وإطار مرجعي لحركات التحرر عبر التاريخ. فلذلك يتضاعف حجم الربح والخسارة باعتبار ما يمكن أن تؤول إليه هذه الثورات في هذين الامتدادين: الآني والزماني.

إن واقع الحال أن الثورات العربية اندلعت بشكل عنقودي فيه استرسال جغرافي، فتحققت بإرادة الشعوب العربية وعذاباتها وحدة رمزية لم يتسن تحقيقها بالقرارات السياسية. وهذا الاندلاع التصاعدي جعل الثورات يغذي بعضها بعضا وبعبارة من  مجازات الثورة، فإن كل ثورة هي لقاح لأخواتها. وبما أن منطق العدوى أصدق في سياق العلة منه في سياق الصحة، فإن انتكاسة أي عنصر تهدد بقية العناصر بالانتكاس والارتداد.

لقد كان من الآثار الأساسية للثورات العربية مضاعفةُ ما للقضية الفلسطينية من مركزية ضمن القضايا العربية من جهة وتكثيف ما لها من رمزية محرجة للضمير الإنساني من جهة ثانية. فكلما تبلبلت الألسنة بما تهتف تجلت القضية الفلسطينية بوصلة ورائزا، فبها تتحدد درجة الوفاء لقضايا الأمة.

ومتاخمة فلسطين لمصر -إحدى دول “الربيع العربي”- ولدت امتدادا ثوريا كان بالإمكان أن تنجم عنه تأثيرات دقيقة  تغيّر وجه المنطقة لو لم تظهر في مصر قوى الثورة المضادة وعلى نحو لا يمكن فهمه إلا في ضوء الملابسات الجيوسياسية. وتقديرنا أن الامتدادات الخارجية للثورات مكانيا وقيميا هي بمثابة الارتدادات الحاسمة في مسار الثورات العربية. ولذلك قدّمت القضية الفلسطينية للثورات العربية أضعاف ما كسبت منها لا فقط لأنّ القضية الفلسطينية هي منوال ثوريّ وتحرري مخصوص في التاريخ الحديث وإنما لأنّ الأصوات الثورية ظلت تحتاج في إثبات أصالتها وتجذرها إلى رائز هو ما لها من وفاء لقضايا الأمة على نحو يستتبع بالضرورة الوفاء للقضية الفلسطينية. وحسْب المتابع هنا أن يلاحظ أن أكثر ما يقع في مصر بعد الثورة يقرأه الناس بما يقع في فلسطين.

إن مقارنة المضمون الخطابي المجيّش للثورة في بدايتها بنظيره الراهن الداعم لنجاحها يكشف حجم ما تعقده الجماهير على الثورة في فجرها وما تتوجسه قُبيْل الانتخابات من خيفة فشلها. ففي فجر الثورة لم يكن للجماهير إلا قيودها لتخسرها، واليوم لها حريتها فهل تفرّط فيها؟

في هذا السياق تتجلى الثورة التونسية في المحيط الإقليمي وفي السياق الكوني باعتبارها منوالا ثوريا إن انتكس فسينال كل قوى التحرر القائمة أو الممكنة فتور وانتكاس. وإن للملاحظ لمثالا يمكن أن يقيس عليه، وهو مثال الثورة الرومانية.

ففي السادس عشر من ديسمبر 1989 اندلعت في العاصمة الرومانية بوخارست ثورة أخذت عدّا تصاعديا بلغ أوجه خلال أسبوع وانتهى بالإطاحة بالدكتاتور نيكولاي تشاوسيسكو فأُعدم وزوجته في محاكمة صورية بساعتين. وسرعان ما أعْمت الفرحةُ الغوغائيةُ عن حقيقة أنّ للدّكتاتور خلَفًا ألدّ  هُمْ جهازه التنفيذي وأداته في القمع. وفي غمرة تهليل الجماهير ونشوتها تخلّقت جبهة من المستفيدين من حكم تشاوسيسكو ومن الأجهزة الأمنية لتشويه قوى الثورة، وكانت الهجومات المدبرة على مباني الإذاعة والتلفزة والجامعات وبعض المؤسسات الحساسة كافية لإفقاد المدّ الثوري مصداقيته في وعي الناس ولتمكين الرعب من أنفس الرومانيين، فإذا الذين يباركون الثورة بالأمس يباركون من الغد الانقلاب عليها. فأعمى الخوف والهلع جمهور بسطاء الناس عن أن يروا أنّ الجبهة التي تشكلت بعد إعدام الدكتاتور والتي كانت تسمى “جبهة الخلاص الوطني” يتزعمها إيون إيليسكو (Ion Iliescu) نائب الرئيس الدكتاتور نيكولاي تشاوسيسكو وأحد عتاة رجاله.

ومن جديد تمت السيطرة على أجهزة الدولة ووُظفت الآلة الإعلامية في تشويه صورة الشباب الثائر، وفي مرحلة ثانية تمّ توظيف عمّال المناجم بتسليحهم في معاقبة شباب الثورة، وخلال يومين من المواجهات أريقت دماء المئات في رومانيا. وانتهى الأمر بترشيح إيون إيليسكو لنفسه لمدة رئاسية ثانية أعلن فيها فوزه على منوال كل الدكتاتوريات بما يناهز تسعة أعشار الناخبين.

إنّ القراءة المقارنة بين مساريْ الثورتين التونسية والرومانية تكشف نقاط شبه هي بمثابة الكليات الراسخة في كل حراك ثوريّ، ويمكن حصرها في ثلاث نقاط، فالنقطة الأولى أنّ الجماهير المسحوقة التي لأجلها وبها تقوم الثورات تغدو ألدّ أعداء الثورة إن لم يؤطرها وعي ثوريّ يرشّد حركتها، وكثيرا ما استُعمِل في هذا السياق تشبيه لهؤلاء البسطاء بأنهم بمثابة الغريق الذي إن لم تحسن التعامل معه شدّك إلى الأعماق فينالك ما يناله من غرق، فالبسطاء في أوطان الثورات هم بالضرورة الأكثر، وهم وقود الثورات الذين يذْكونها أو يحترقون بها، وحال السلبية هو الذي جعل لهم في كثير من الأدبيات صورة سلبية، فخصوا بأسماء مثل السوقة والرعاع والدهماء والهمج والغَثَر والوخش والبوغاء والرِّجْرِجة والغوغاء..

والنقطة الثانية أنّ إقصاء رأس النظام القاهر ليس سوى إزالة لسدادة قمقم من نظرائه وحلفائه النافذين المستفيدين من حكمه وقهره، وبالتالي على الجماهير الثائرة أن تعلم أن حالها بُعيْد الثورة أشدّ حرجا لأنّ المفرد قد غدا جمعا ولأنّ من كانوا يختفون وراء الحاكم بأمره قد برزوا للعين المجردة لكن على نحو أخطر بما أنهم سيشكلون كيانا متماسكا متضامنا فليس لهذه الكيانات إلا أن تقضي على الثورة فتكون حياتُها أو تقضي عليها الثورة فتكون نهايتُها.

والنقطة الثالثة هي أنّ ألدّ الأخطار الممكنة للثورات هي وسائل الإعلام، ففي كل نظام مستبدّ يسعى النظام الحاكم إلى ترويض وسائل الإعلام بالعصا طورا وبالجزرة أطوارا. ولذلك تجد أن المنعرجات الحقيقية ترتبط بالتحكم في وسائل الإعلام لاسيما إن كانت الأمور مرتبة كما وقع في تونس في  انقلاب 7 نوفمبر 1987 حيث كانت الإذاعة أوّل جهة يتم منها إعلان الوضع الجديد.

قد يرى بعض المتابعين أن القوى النافذة في العالم تعاملت مع الثورة التونسية بما يبرئ ذمتها إزاء بقية الثورات العربية وبما يرفع عنها العتب في فشل هذه الثورات. ولكن تقديرنا أن في هذا الرأي إهانة واستهانة بإرادة الشعوب كما أن فيه وجها آخر لعقلية المؤامرة وإن كان في هذه المرة تآمرا على إنجاح هذه الثورة وإفشال أخواتها.

إن من ملامح تلازم الألم والأمل لدى الشعوب العربية ما يدرَك من حركات التحرر الوطنية ومن كلفتها العالية، وبنفس القوانين التي بها تخلصت هذه الشعوب من مضطهدها الخارجي ستتخلص من مضطهديها المحليين، ولذلك نجزم أن ثورات هذه الشعوب لن تهزم، وإنما كل ما في الأمر أنّ كلفة كل منها متفاوتة وأنّ القانون الأساسي في الثورات هو أن وقودها الدم، وكل قطرة دم هي خطوة في مسار الحرية الذي كثيرا ما يكون طويلا.

إنّ  المستقبل المتوسط والبعيد للثورات أخطر من مآلاتها القريبة والمباشرة، فالثورة الفرنسية ظلت وقودا يدفع الشعوب المتعطشة إلى قيم الحرية والانعتاق.

ولذلك فإنّ فشل منوال ثوريّ معيّن هو فشل لكل قوى التحرر في عهده وبعده، ولذلك ستجد بين كل دعاة الحرية نصيرا للثورة التونسية وستكون مثالا يلهم قوى التحرر في العالم وعبر التاريخ.

ويقيننا اليوم أنّ الثورة التونسية ستستقر في الضمير الإنساني منوالا ثوريا أصيلا وذا كثافة رمزية عالية، وستظلّ قوى التحرر تستلهم قيم هذه الثورة وتعتبر من مساراتها.

د. حسين السودانيّ

 

اللغة والواقع الاتصالي الجديد: نهاية الجغرافيا وعودة التاريخ

اللغة والواقع الاتصالي الجديد: نهاية الجغرافيا وعودة التاريخ

houcine

د. حسين السوداني

تثار المسألة اللغوية في كلّ حدث تواصل بشريّ، فتختزل كل الأبعاد الرمزية للإنسان إذ يتعرّف إلى إنسان آخر. والذي يراجع التاريخ الإنساني يجد في المنعرجات الكبرى من تاريخ الإنسان حضورا للغة باعتبارها مشكّلة  للوعي بالآخر وحاضنة لكلّ ما ينعقد بين أطراف التواصل نفسيا واجتماعيا وفكريا وحضاريا. وإذا أخذنا اللغة بمفهوم موسَّع عرّفناها بكونها منظومة من الرموز التي تُنشئها المواضعة لتأدية معنى، فإن تبنّيا هذا التعريف لم تنحصر دائرة المعنى فيما نريد إبلاغه، وإنما يغدو عالمُنا كلُّه: ملبسُنا ومأكلُنا ومشربُنا وكيفياتُنا في أداء التحية جميعا أنظمة دالة. والسائح الذي يدخل فضاء اجتماعيا معيّنا إنما يدخله بمقتضيات ذلك القانون التواصليّ: فهو في عين من يفِدُ عليهم  دالٌّ  بكل ما اقترنت به وِفادته، وهو مستدلّ بملامح الفضاء الجديد على أهل ذلك المكان.

ومن طريف ما يجسّد هذا الناموس التواصليّ ما اقترن به اكتشاف كريستوف كولومبوس (Christophorus Columbus) (1451-1506) لأمريكا سنة 1492 من مواقف حاول تزفيتان تودوروف (Tezvetan Todorov) رصْدها في كتابه “اكتشاف أمريكا: مشكلة الآخر”. فمن خلال المواقف التي يعرضها تودوروف تتضح في شخص كولومبس صورة الأوروبيّ الذي يتكلم لغة واحدة فيظن أنّ كل متكلم يرى العالم  والأشياء على نحوه هو. وهي وضعية تكشف أهمية التعدد اللغوي في تنْسيب رؤيتنا وتقييمنا للأشياء. فقد بدت المعظلة الأساسية لكريستوفر كولمبس إزاء العالم الجديد وسكانهِ مشكلةً لغوية تواصلية بالأساس[1].

لذلك يقدّر المؤرخون للعلم اللساني الحديث بأنّ إرهاصات نشأة علم اللسانيات إنما بدأت في إطار هذا التثاقف الذي فرضته الاكتشافات الجغرافية الكبرى. فالذي يراجع تاريخ الدراسات اللسانية يجد أنّ البعثات العسكرية والجغرافية والعلمية قد مثلت إطارا  مُهمّا حمل الأوروبيين على مقارنة ثقافتهم بثقافات الشعوب التي اطلعوا عليها، فكان لذلك أثران علميان مهمّان، أولهما نشأة الأنثروبولوجيا باعتبارها علما يدرس الإنسان من حيث هو كائن اجتماعي، فتأسس اتجاه بحثيّ في القرن  التاسع عشر ينشغل بدراسة الشعوب لاسيما ما كان منها بعيدا عن أروبا مركز الحضارة الحديثة. وتزامن ذلك مع شغف شديد لدى الأوروبيين باكتشاف كلّ جديد والتطلع إلى كل غريب قادم من بعيد، واختُصر ذلك في هالة تضفَى على كلّ وافد غريب ماديا كان أو معنويا، فيوصف على سبيل الدهشة بأنه “exotic”.

أما الأثر الثاني فيتمثل في عمليات مقارنة كانت بداياتها عفويّة وبسيطة انطلاقا من ملاحظات مستكشفين أوروبيين،  ثمّ تطوّرت فكانت هذه المقارنات أرضية للدراسات التاريخية المقارنة في القرن التاسع عشر لاسيما بعد أن نشر فرانز بوب (Franz Bopp) (1791- 1867) باكورة بحوثه سنة 1816 بعنوان “عن نظام التصريف في اللغة السنسكريتية مقارَناً بنظيره في كل من اليونانية واللاتينية والفارسية والجرمانية”. فمن البدايات الأولى للمنهج التاريخي المقارن ما قام به الأب الفرنسي كوردو (Gaston Laurent Coeurdoux) (1691-  1779) حين أعلن سنة 1767 عن العلاقة بين السنسكريتية واليونانية واللاتينية ثم نشر ذلك في بحث أظهره للناس قُبيْل وفاته. وبالتزامن مع ذلك أبدى السير وليام جونز Sir William Jones (1746 – 1794) القاضي بالمحكمة العليا بالبنغال إشارة لغوية دقيقة ما إن ذكرها في تقرير له سنة 1786 حتى أذكت روح البحث العلمي المقارن في لغات الشعوب في مطلع القرن التاسع عشر، ومفاد ملاحظة وليام جونز أنّ السّنسكريتية واليونانيّة واللاّتينيّة بينها أوجه قرابة قويّة لا يمكن أن تُردّ إلى محض الصّدفة.

على هذا النحو كان احتكاك الأروبيين بغيرهم من الشعوب مقدمة لنهضة علوم اللسان والإنسان، وهي النهضة التي نَدِين إليها بما حصل من تطور في العلوم الإنسانية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين.

ورغم هذه الحصيلة العلمية المهمة فإن أهداف تلك السياحة الأوروبية في العالم لم تكن من جنس أهدافها المرسومة سلفا، فقد كانت الغايات تجارية استعمارية بالأساس، فتحققت النتائج بما يشبه الصدفة على نحو ما فعل كريستوفر كولومبس إذ اكتشف أمريكا وهو يبحث عن طريق إلى الهند.

وإذا كان الأمر على ذلك النحو في وضعيات حضارية لم تكن اللغة فيها مكوّنا ضمن سياسة محددة، فإنّ الأمر يختلف حين تحتضن المسألةَ اللغويةَ أطرٌ علميةٌ واستراتيجية على درجة عالية من الدقة. فالاكتشافات الأنثروبولوجية الكبرى خلال القرن العشرين قد تمت فيما يمكن أن نعدّه سياحة علمية فتحت أعين الدارسين على أنّ الإنسان واللسان هما طرفا المعادلة في الحضارة الإنسانية. فكان الإنجاز المنعرج في هذا المضمار حين كشف كلود ليفي ستروس (Claude LéviStrauss) (1908-2009) أنّ أنظمة القرابة هي أنظمة تحاكي مؤسسة اللغة فيما تحتكم إليه من علاقات وقيم، ففي السياق الاجتماعي يحتكم الناس إلى قوانين صارمة لا تقل عن قوانين اللغة صرامة وإلزاما، فتضبط سلوكهم ويمتثلون لها في أقوى علاقاتهم كالمصاهرة والزواج والميراث. وقد أتيح لكلود ليفي ستروس البحث في ذلك ميدانيا من خلال رحلتين إلى البرازيل عامي 1935 و1938 إذ اطلع بفضلهما على أحوال الهنود الحمر في ضواحي ساو باولو وفي أريافها البعيدة. فكانت تلك السياحة العلمية مفتاحا لتأسيس الأنثروبولوجيا البنيوية انطلاقا من استثمار اللسانيات البنيوية في الأنثروبولوجيا، وكان المنتوج الأوّل بحثا صدر سنة 1945 بعنوان “التّحليل البنيويّ في اللّسانيّات والأنثروبولوجيا” ثم طُوّر ليكون كتابا ضخما صدر سنة 1958بعنوان “الأنثروبولوجيا البنيوية”.

على هذا النحو تنامى خلال القرنين الماضيَيْن إدراكٌ لمركزية اللغة في علوم الإنسان، وبلغ هذا الوعي أوْجَهُ بتطور علوم الإدراك (cognitive sciences). فأصبح الدارسون يتعاملون مع الألسنة باعتبارها ثروات علمية حقيقية. وبذلك لم يعد المجال متعلقا بالمفاضلة بين اللغات واستنقاص ما لم يكن له رصيد من مقومات الحضارة الحديثة، بل إنّ الأمر مبني في تقدير العلماء المتخصصين على معادلة أخرى هي أنّ اكتشاف تلك الألسنة الأقرب إلى البداوة يعدّ ثروة حقيقية، وهذا الأمر شجّع جمهور الباحثين إلى نوع جديد من السياحة الاستكشافية يهدف إلى الاستثمار العلمي للمكتشَفات اللغوية الجديدة. فمن ذلك صيحة الفزع التي أُعلنت من خلال ملف جعلته مجلة “ناشيونال جيوغرافيك” للغات المهددة بالاندثار، وذلك في عدد جويلية 2012، فقد أشار روس ريمر  ( Russ Rymer) من خلال أمثلة عايشها إلى ما يتهدد العديد من لغات الشعوب المغمورة من خطر الاندثار. وإزاء الخصوصيات البنائية لهذه اللغات فإنّ اندثارها يحرمنا من القناة التي نتطلع بها إلى ذاكرة الشعوب الناطقة بتلك اللغات ويُتلف الأداة التي بها يمكن أن نعرف وجهة نظرٍ للعالم والأشياء تختلف بالضرورة عن كيفيتنا في رؤية الأشياء[2].

واليوم  تثير الباحثَ في أمر اللغات معلومةٌ تواترت حتى غدت مسلّمة، وهي أنّ ثمة لغة تموت كل أربعة عشر يوما.  وعلى هذه المعلومة الأساسية بنى التونسي الفرنسيّ كلود حجاج كتابه  الصادر سنة 2002 بعنوان في صيغة صيحة فزع “أوقفوا موت اللغات” (Halte à la mort des langues)[3]. ولئن ارتبط المنعرج التاريخي بين القرنين العشرين والحادي والعشرين بفكرة العولمة، فإنّ ما فرضته وسائل الاتصال في السياق العالمي الجديد قد جعل للهوية اللغوية بكل ما ترتبط به أولويةً اعتباريةً، وذلك فيما أصبح يختصره البعض في أنها نهاية الجغرافيا وعودة التاريخ.

وفي واقع العولمة كفّت اللغات عن أن تكُون مجرّد أدوات تواصلٍ ومكوناتِ هويةٍ ينبغي تحصينها.  فالمنظومة الجديدة فرضت حدّا من التبادل والتفاعل لا مهرب منه. وهو ما اختزله جون لوي كالفاي (Louis-Jean Calvet) في عنوان كتابه “سوق اللغات: التأثيرات اللغوية للعولمة”[4]

وقد تجلى هذا الوضع اللغوي الكوني في سياسة المنتظم الأممي بارتباط نهاية الألفية الثانية ومطلع الألفية الثالثة باتجاه مهم في سياسة الأمم المتحدة هو الاهتمام بالهويات اللغوية. وقد تجلى ذلك في شكل صيحة فزع إزاء الموت الذي يهدد كثيرا من الألسنة البشرية. وتزامن ذلك  مع اهتمام أكاديمي بهذه الظاهرة في الأوساط العلمية. فقد جعلت منظمة اليونسكو  عدد  مجلتها لأفريل من سنة 2000 بعنوان صادم هو “حرب اللغات وسلْمها”،  وأصدر ستيفن وورك ( Stephen A. Wurm ) سنة 2002 “أطلس اللغات المهددة بالاندثار في العالم”[5]. وفي نفس السنة اتجه لسانيون عديدون إلى الاهتمام بقضية موت اللغات. فشكّل هؤلاء الباحثون تيارا نشأ بشكل متزامن، فمنهم في الفضاء الفرنكفوني كلود حجاج وجون لوي كالفاي، ومنهم في السياق الأنغلوفوني دانيال ناتل (Daniel Nettle) وسوزان رومان (Suzanne Romaine) [6]

وإزاء واقع الصراع اللغوي الكوني أصبح السؤال عن مستقبل لسان معيّن هاجسا علميا ملحّا من منظور لساني تقنيّ  وواجبا قوميا حارقا من منظور حضاري ثقافيّ.  وبذلك نشأ مفهوم جديد شغل تيارا بحثيا كاملا هو مفهوم “الحروب اللغوية”. فشكّل موضوعَ كتاباتٍ عديدة منها ما يدرُس مركزية القضيةِ اللغوية في الحروب كما في بعض كتابات تزفتان تودوروف[7] . ومنها ما يقتفي أوجه الصراع بين الألسنة البشرية كما في كتابات روبان تولماتش لايكوف ( Robin Tolmach Lakoff ) [8]  وهنري هيتشنغز (Henry Hitchings)[9] .

إنّ التقدير المنصف للرابطة اللغوية في النسيج الإنساني يجعلنا نرى أنّ  الأطر الجمعياتية المدافعة عن الألسنة المحلية يمكن أن ينظّم نشاطها إطارٌ أوسع مدى وأجلُّ أثرا، وذلك حين يبنى النظر في العلاقة بين اللغات على أساس من التنوع المتكامل لا على خلفية من التنازع والصراع، وهو ما يمكن أن يكون انطلاقا من تأسيس منتدى عالمي للغات والتواصل، وسيكون من مهام هذا المنتدى العالمي أن يوظِّفَ التعددَ اللغويَّ في خدمة السلام بين الإنسان والإنسان.

[1] Tzvetan Todorov, La Conquête de l’Amérique, La Question de l’autre, éditions du Seuil, 1982.

[2] Russ Rymer, Vanishing Languages, in National Geographic, July 2015.

[3] Claude Hagège, Halte à la mort des langues, Ed. Odile Jacob, 2002.

[4] Louis-Jean Calvet , Le Marché aux langues : Les Effets linguistiques de la mondialisation. Ed. Plon, 2002.

[5] Stephen A. Wurm, Atlas Of The World’s Languages In Danger Of Disappearing, ED. UNESCO, 2002.

[6] Daniel Nettle and  Suzanne Romaine, Vanishing Voices : The Extinction of the World’s Languages, Oxford University Press, USA, 2000.

[7] Tzvetan Todorov, La Conquête de l’Amérique , La Question de l’autre, éditions du Seuil, 1982.

[8] Robin Tolmach Lakoff, The Language War, University of California Press,  2001

[9] Henry Hitchings, The Language Wars: A History of Proper English, Picador, 2012

انترنيت الأشياء: تذكية الشيء وتشييء الذّكيّ

 

 انترنيت الأشياء:  تذكية الشيء  وتشييء الذّكيّ

د. حسين السوداني

المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة

 houcine

 

 

 

ارتبط مطلع القرن الحادي والعشرين بمنعرج في علوم الذكاء الاصطناعي جدد للغة ولعلومها الحظوةَ التي تضاعفت منذ الطفرة التي حققتها علوم الإدراك والحاسوب. ففي مطلع القرن أُعْلن ظهور الجيل الثالث من الشبكة العنكبوتية، وهو جيل الويب الدلالي (Semantic Web).  ويرتبط هذا الفتح الجديد بثلاثة معطيات أساسية ، أولها إقامة العلاقة بين المستخدم والشبكة على التفاعل، والثاني هو تشبيك المعطيات -مهيكلَة كانت أو غير مهيكلَة – على نحو ينتهي بها إلى درجة عالية من الرصف والبَنْيَنَة التي  تيسّر معالجتها واستخدامها، وهذا يخلص بنا إلى معطى ثالث هو أنّ ما قد يبدو من فوضى في دفق المعلومات يصبح منظما في سياق شبكيّ تشعّبيّ.

ومن النتائج المباشرة لهذا الإطار التقني الجديد أنّ القسمة التقليدية في عالم الحاسوب إلى عتاد (Hardware)وبرامج (Software) أصبحت قسمة غير دقيقة. وهو الأمر الذي بدأت ملامحه مع انترنيت السحاب (Cloud Internet) حيث أصبحت أنظمة برمجية تحُلّ محلّ المعالِجات والذاكرة العشوائية. وبالتالي يجد الباحث نفسه إزاء منظومة سريعة التجدد من ناحية، وذات تخوم متحوّلة من ناحية ثانية. وبذلك أصبح المعوَّل الأساسيّ على المكوّن البرمَجيّ لا في التخفُّفِ من التبعية إلى العتاد المادّي فحسب، وإنما أساسا في توسيع أوجه توظيف الذكاء الاصطناعيّ، فكان انترنيت الأشياء (IOT) الظاهرة التي يراد من خلالها أن يكون في كلّ الأشياء الحيوية للإنسان مكوّن برمجيّ ينظّمه.

ولكنّ “تذكية الأشياء” التي تحيط بنا تستدعي في واقع الإنسان المعاصر منظومة قيمية ولغوية تتجاوز حدود العالم السيبرنيتيكي إلى المستوى العاطفي والقيمي الذي به تتحدد علاقة الإنسان بنفسه وبالكون. وممّا يضاعف أهمّية ذلك أنّ منظومة التشبيك المعلوماتي الجديدة تقتل كلّ خصوصية وتجعل الخاصّ متاحا للعامّ وإن بدرجاتٍ وحسَبَ مهارات طالبي المعلومة، بل إنّ  ما قد يبدو في لحظة محددة ممتنعا على الاختراق سيكون في مرمى قراصنة المعلومات في لحظة مّا، ذلك أنّه يوجد تناسب تام بين ما قد يبدو من متانة أنظمة الحماية وما يلازم ذلك من حرص  القراصنة على الاختراق.

إنّ الإنسان المعاصر يجد نفسه في هذا السياق السيبرنيتيكي الجديد إزاء منظومة تصوّرية جديدة يطال أثرها محددات وجوده الأربعة: النفسية والاجتماعية والإدراكية والعاطفية.

أما في المستوى النفسي فإنّ كثيرا من السمات البشرية التي تأسس الذكاء الاصطناعي لتجاوزها هي في التقدير  الحوسبي نقائص الإنسان، ولكنها في التقدير البسيكولوجي فضائله التي بها إنسانيتُه. ورأس الأمثلة في ذلك أنّ  ظاهرة  اللبس في اللغة (Ambiguity) هي في تقدير الحاسوبي كبرى العلل في اللغة الصناعية أي  لغة الحاسوب، ولكنّها في التقدير اللساني هي أهمّ خصائص اللغة الطبيعية أي لغة الإنسان، وهو  الأمر الذي نوّهت به اللسانية الفرنسية كاترين فوكس (Catherine Fuchs)وجعلته مقدمة الكتاب الذي نشرت فيه أعمال الندوة التي انتظمت في فرنسا عن اللبس في اللغة[1].  ولئن كان من فضائل اللبس أنه أداة كثير من الخيارات الأسلوبية كالمجاز والتورية والإيهام والتعدد الدلاليّ، فإنه كذلك يحدّد خصوصية الذهن البشريّ في معالجة ما يَرِد عليه من حوامل المعنى. من هذا المنظور، يحصّلُ الذهنُ  المعنى انطلاقا من هامش خطإٍ هو الذي يجعل المتخاطبين  ينسّبون ما يذهبون إليه من المعنى. وبالتالي يعني الذكاء الصناعي –بما هو الحوسبة الدقيقة- مصادرةً لقيمة أساسية في الفعل الإنساني هي قابلية الخطإ.

لذلك يضبط هذا الإطارُ النفسيُّ محدداتِ العلاقة الاجتماعية الناظمة للتعايش الجماعي. فمما يؤمّن إمكانية التعايش بين المختلفين أخلاقيا أن يكون لكلّ منهم حيّز من الخصوصيات العلائقية والسلوكية والتصوّرية التي تؤمّن لهم فرادةً مّا داخل الإطار الاجتماعيّ الذي ينحدرون منه، فمن المواضعات التلقائية للتعاقد الاجتماعي أنه حتى النزوات الأشد حميمية لا تؤدّي إلى الإقصاء ورفض الآخر إذا ظلّت في دائرة الخفاء والستر والخصوصية. فإن أُعْلِنت على نحو من الإغاظة والإثارة، أرْبكت التعايش الجماعيّ . ومتى انخرط الفرد في فضاء منكشف الخصوصيات، فإنّ التشبيك يقتل خصوصيته، لاَ لِإدماجه اجتماعيا، وإنما لإحلال الحرج والارتباك في التواصل محلّ الأريحية والإحساس بالأمان، ناهيك أنّ أشدّ الأشياء حميمية لدينا هي أوْلى الأشياء بإخفائنا وسترنا لها. ومن هذه الناحية فإنّ من استتباعات انترنيت الأشياء أنه يصنع فضاء مشتركا لكن غير آمن أخلاقيا وعاطفيا، فهو يخلق منظومة علاقات تشعّبية تقتل كل خصوصية لأنّ النظام التشعبي لبرامج أنترنيت الأشياء يجعل إمكانيات التشبيك منفتحة ولا تعتمد بالضرورة على ربط مباشر بين المعطيات. ومن سيكولوجية الخطإ أن العدول عنه –أي التوبة في المنطق الديني- يكون بكلفة نفسية واجتماعية أقلّ إن كان بوازع ذاتي داخليّ. أما في هذا الإطار السيبرنيتيكي الجديد فإنّ الحقّ في الخطإ مصادَرٌ بأنَّ لسيرة كل مستعمل ذاكرةً الكترونيةً تُظهر ما يريد أن يخفيه، وتفضح ما عساه يتمنى التنصّل منه. وباعتبار أنّ بين القيم تداعيا وترابطا وثيقا، فإنّ الخطأ موصول بقيم كالتسامح والنسيان والتدارك والحِلْم. أما المنظومة التواصلية الالكترونية فإنها قائمة على وثوقية لا نسبية فيها، وبمقتضى ذلك فلا حِلْم في هذا الفضاء الافتراضي حتى إزاء الزلات العابرة متى احتوتها الذاكرة الالكترونية ورمت بها في بحرِ شبكةٍ لا حدود لها في الزمان والمكان.

إنّ هذا الإطار النفسي والاجتماعي الناشئ على هامش الفضاء الافتراضي عموما وعلى هامش انترنيت الأشياء خصوصا، ذو استتباعات دقيقة على مستوى المنظومة التصوّرية (Conceptual system) التي تتحدّد بها دقائق رؤيتنا للعالم والأشياء والتي ستتجلى على نحو مّا في اللغة، فإذا استقرت في مؤسسة اللغة غدت مواضعة إدراكية وجودية لا اجتماعية فحسب.

إنّ كثيرا من المفاهيم والتصورات التي رسخت لها تعريفات معينة في التراث الإنساني قد غدت دوالَّ لمدلولات متغيرة، آية ذلك أنه كثيرا ما عُرّف الذكاء باعتباره خصوصية في الفرد تتجسد في التفاعل الإيجابي مع المحيط. ولكن هذا التعريف القائم على مفهوم الفرادة لا ينسجم والإطارَ التشاركيَّ الذي أصبح الحديث فيه عن “الذكاء الجماعي” بديلا عن الذكاء في معناه التقليديّ. وإنما الفرق بين السياقين أن التصور التقليدي مرجعه الذكيّ الناجح في حين أن التصوّر الراهن غايته الذكاء الناجع. لذلك يتقدم البحث التقني اليوم بغاية البحث عن حلول لمشاكل الآلة عتادا وبرمجة في حين يتمحور المنوال التقليدي لتصوّر الذكاء حول محور مركزيّ هو الإنسان من حيث هو المرجع والمرآة في قيمة الذكاء. ومفهوم النجاعة هو ما به نفسّر ما قد يبدو من نشاز وعدم انسجام بين الحديث عن “ذكاء جماعيّ” من ناحية وما يوسم به إنسان هذا العصر من فردانية (Individualism)، فنحن نتعامل مع الآخر في الإطار السيبرنيتيكي باعتباره وسيلة لا باعتباره غاية.

ومن تجسُّدات هذا الإطار التصوّري والقيميّ الجديد  أنّ الإنسان نفسَه يغدو شيئا من أشياء عالم أنترنيت الأشياء. فإن كان من فضائل هذا الفتح الجديد “تذكية الأشياء” فهل يكون من استتباعاته “تشييء الذكيّ[2]” (Human Objectification)؟

لئن قامت انترنيت الأشياء على زراعة حوامل لبرامج ذكية في ما ليس بالذكيّ، فإنّ واقع الاستعمال قد تطوّر نحو استنْبَات هذه الحوامل الذكية لا في أشياء الإنسان فحسب، وإنما في الإنسان نفسه. وأوضح أوجه ذلك هو الشرائحُ الالكترونية المعروفة بشرائح “التعرف على الهوية بواسطة موجات الراديو” (Radio Frequency Identification) والتي تسمى اختصارا “RFID”. وتعرف هذه الوسائط من حيث العتاد بأنها رقائق الكترونية تُصنع عادة من السيليكون وتحتوي على لاقطات هوائية موجَّهة،  ومن حيث البرمجة تعتمد هذه التقنية على آلية تَعرُّف تلقائيّ انطلاقا من تخزين معلومات تحفظ في رقائق وبطاقات مستجيبة تتولى قراءتها ماسحاتٌ ضوئيةٌ (Scanners). وإذا كان منشأ استعمال هذه الرقائق في سياقات بحثية أو عملية نبيلة فإنه لا مانع عمليّا من استعمالها في سياقات التجسس والتضييق على الحريات.

وأن يتمّ تشييء الذكيّ وتذكية الشيء معناه أنّ ما رسخ في لغتنا  من قسمة للموجودات هو اليوم بحاجة إلى إعادة نظر، فعلى اللسانيّ اليوم  أن يأخذ بعين الاعتبار ثنائيات جديدة في عالمه اللغوي مثل الذكيّ/ غير الذكيّ كما أنّ عليه أن يراجع مقولات قديمة مثل كائن حيّ/ كائن ميّت. وبدرجة ثانية يجب على المشتغلين بمنظومات التواصل الحديث أن لا يغضّوا النظر عن أنّ المنظومات النقدية التقليدية قد أصبحت لا تفي بالحاجة إزاء مستجدات الواقع التقني الجديد حيث غدا الحديث عن التواصل بين الإنسان والآلة أحد المباحث الأساسية للمشتغلين  بهذا العالم الافتراضي[3].

Man-machine communication

.

د. حسين السوداني

المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة

[1] L’Ambiguïté́ et la paraphrase : opérations linguistiques, processus cognitifs, traitements automatisés: actes du colloque de Caen, 9-11 avril 1987. Caen, France : Centre de publications de l’Université́ de Caen, 1985.

[2]  درس فريدريك  فنربورغ (Vandenberghe Frédéric) مفهوم التشييء وأصول هذه الظاهرة في مقال مهم

انظر

Vandenberghe Frédéric. La notion de réification. Réification sociale et chosification méthodologique. In: L Homme et la société,
N. 103, 1992. Aliénations nationales. pp. 81-93.

[3]  هو عنوان  العديد من الكتب مثل:

  • Charles T. Meadow, Man-machine Communication (Information Science), John Wiley & Sons Inc
  • Marie-Pierre de Montgomery, La Communication homme machine, Édité par Centre du XXe siècle, Université De Nice, Centre Du Xx/ Siècle,

الترجمان ذلك الخائن الخوّان

الترجمان ذلك الخائن الخوّان

houcineد. حسين السوداني

يرتبط بالمترجم إطار استعاريّ يبدو عابرا للثقافات هو أن المترجم خائن خوّان[1]، وقد تجسّد ذلك في اللغة الإيطالية على نحو ِحكْميّ انطلاقا من سجع يجري الحُكْم مجرى الحِكمة (traditore traduttore)، وهو السجع الذي سعى بعض الفرنسيين إلى استضافته في اللسان الفرنسي ولو بنحت لفظ غريب عن اللسان الفرنسي، (Traduire, c’est trahir)[2].

ولهذه الريبة نظير في التراث العربي انطلاقا من فكرة أساسية هي استحالة الترجمة المكافئة لأصل الكلام. فلذلك ينبغي فهم “خيانة الترجمان” على غير المعنى الحقيقي للخيانة والتخوين. فالترجمة نشاط إدراكيّ جامع بكلّ معنى الكلمة، وهو يستجمع عمل الذهن في كلّ دقائقه. وقد عبّر الجاحظ عن هذه الإكراهات المنهجية بعبارة تستجمع ما يحيط بنشاط الترجمان من ضوابط وشروط تجعل نجاح الترجمة أمرا غير مأمون. يقول الجاحظ: “ولا بد للترجمان من أن يكون بيانه في نفس الترجمة، في وزن علمه في نفس المعرفة، وينبغي أن يكون أعلم الناس باللغة المنقولة والمنقول إليها، حتى يكون فيهما سواء وغاية، ومتى وجدناه أيضا قد تكلم بلسانين، علمنا أنه قد أدخل الضيم عليهما؛ لأن كل واحدة من اللغتين تجذب الأخرى وتأخذ منها، وتعترض عليها، وكيف يكون تمكن اللسان منهما مجتمعين فيه، كتمكنه إذا انفرد بالواحدة، وإنما له قوة واحدة، فإن تكلم بلغة واحدة استفرغت تلك القوة عليهما، وكذلك إن تكلم بأكثر من لغتين، على حساب ذلك تكون الترجمة لجميع اللغات. وكلما كان الباب من العلم أعسر وأضيق، والعلماء به أقل، كان أشد على المترجم، وأجدر أن يخطئ فيه. ولن تجد البتة مترجما يفي بواحد من هؤلاء العلماء”[3].

لقد صاغ الجاحظ عبارته بصرامة أسلوبية وتشديد فيه ثلاثة مدارج تضبط بالاستتباع ما ينجرّ بتوالد الشروط، فالمدرج الأوّل هو ضرورة تكافؤ بيان المترجم ولغته وعلمه في لغتيْ الانطلاق والوصول. ويستتبع هذا الشرطَ الأوَّلَ تمزقُ المترجم أمام تجاذب لسانيْ الترجمة  “لأن كل واحدة من اللغتين تجذب الأخرى وتأخذ منها، وتعترض عليها “. ولهذا المدرج الثاني استتباع ثالث يكون بحسب مجال الترجمة، وذلك انطلاقا من التناسب الطرديّ بين دقة التخصّص وعسر الترجمة. ومن هذا التدرج السببي يخلص الجاحظ إلى أنّه “لن تجد البتة مترجما يفي بواحد من هؤلاء العلماء”.

وما يجعل الأمر على هذا النحو أنّ كل لغة تمثل وجهة نظر خاصة للعالم والأشياء، وذلك على نحو يختلف بالضرورة من لغة على أخرى، وإدراك هذا الأمر هو من المغانم الأساسية التي يحصّلها من يطّلع على أكثر من لسان واحد. فالذي يتجول بين الألسنة يدرك أهمية تنسيب الأشياء. ذلك أنّ كثيرا مما نراه كونيا في لساننا المحلّيّ قد لا يكون له نظير في لغة أخرى. فمن ذلك أنّ في العربية مفردا ومثنى وجمعا، وليس في الفرنسية مثلا سوى المفرد والجمع. وفي العربية مذكر ومؤنث، وفي الألمانية مذكر ومؤنث ومحايد. وللمقارن بين الألسنة في هذا الباب أمثلة لو علمها كلّ متعصّب للسانه القوميّ لفضّل التنسيب على الإطلاق.

إنّ إدراك هذا المستوى من الفوارق اللغوية وما يقتضيه من كياسة الترجمان هو ما يشكل معرقلا يمكن اعتباره في مستوى الكليات اللغوية، وهو لذلك يمثل مستوى مشتركا بين المشتغلين بالترجمة نظريا وتطبيقيا، ويتجلّى هذا الوجه النظاميّ في السياقات العلمية التقنية مثل الهندسة والتنجيم والحساب واللحون. ولكنه قد يغدو هيّنا متى قورن بمستوى أسلوبيّ لا يرتبط بنظام اللسانيْن: المنقول منه والمنقول إليه، وإنما يتعلق بالمستوى الفرديّ من تصرّف المتكلمين في قواعد ألسنتهم المحلية، وهو الذي يساوي مستوى الكلام في قسمة فردينان دي سوسير لمستويات الظاهرة اللغوية إلى مستوى كونيّ يسميه “اللغة” (Langage)، ومستوى اجتماعي يسميه “اللسان”  (Langue) ومستوى فرديّ هو مستوى “الكلام” (Parole).

في هذا المستوى الفردي تتباين أساليب المتكلمين واختياراتهم التعبيرية في دائرة اللسان الواحد، ولذلك خصّ الجاحظ هذا المستوى بتفصيل خاصّ، فقال مقارنا لهذا المستوى بسابقه: “هذا قولنا في كتب الهندسة والتنجيم والحساب واللحون، فكيف لو كانت هذه الكتب كتب دين وإخبار عن الله -عزل وجل- بما يجوز عليه مما لا يجوز عليه حتى يريد أن يتكلم على تصحيح المعاني في الطبائع، ويكون ذلك معقودا بالتوحيد، ويتكلم في وجوه الإخبار واحتمالاته للوجوه، ويكون ذلك متضمنا بما يجوز على الله تعالى، مما لا يجوز، وبما لا يجوز على الناس مما لا يجوز، وحتى يعلم مستقر العام والخاص، والمقابلات التي تلقى الأخبار العامية المخرج فيجعلها خاصية؛ وحتى يعرف من الخبر ما يخصه الخبر الذي هو أثر، مما يخصه الخبر الذي هو قرآن، وما يخصه العقل مما تخصه العادة أو الحال الرادة له عن العموم؛ وحتى يعرف ما يكون من الخبر صدقا أو كذبا، وما لا يجوز أن يسمى بصدق ولا كذب؛ وحتى يعرف اسم الصدق والكذب، وعلى كم معنى يشتمل ويجتمع، وعند فقد أي معنى ينقلب ذلك الاسم، وكذلك معرفة المحال من الصحيح، وأي شيء تأويل المحال، وهل يسمى المحال كذبا أم لا يجوز ذلك، وأي القولين أفحش: المحال أم الكذب، وفي أي موضع يكون المحال أفضع، والكذب أشنع؛ وحتى يعرف المثل والبديع، والوحي والكناية، وفصل ما بين الخطل والهدر. والمقصور والمبسوط والاختصار؛ وحتى يعرف أبنية الكلام، وعادات القوم، وأسباب تفاهمهم، والذي ذكرنا قليل من كثير”.

إنّ هذه الضوابط المنهجية هي ما يجعل النصّ الواحد مرشحا بالضرورة لترجمات يكافئ عددُها عدد مترجميها. فكلّ ترجمة إنما هي ترجمة عن فهم صاحبها لما يترجم. ومن ملامح ذلك أنّ شيشرون يحدد الخطوط العريضة لمنهجه في الترجمة في مقدمته لترجمة de optimo genere oratorum قائلا :”أنا لم أترجم هذه الخطب باعتباري مترجماً بل باعتباري خطيباً , فأبقيت على الأفكار والأشكال نفسها , أو إذا صح هذا التعبير , أبقيته على ” صور ” الفكر نفسها وإن كان ذلك في لغة تتفق مع استعمالنا اللغوي المعاصر، وفي غضون ذلك لم أر من الضروري أن أترجم كل كلمة بكلمة مماثلة , بل حافظت على الأسلوب العام وعلى قوة اللغة”[4].

من كل ذلك نخلص إلى أنّ ما ينجزه الترجمان ليس في كل الأخوال  نقلا لأصل المعنى في الكلام المنقول، وهو أمر يضاعف مسؤولية المترجم انطلاقا من أنّ للمعاني في الكلام ظلالا هي ما جعل المناطقة -ومن بعدهم الأصوليون والبلاغيون- يميّزون في الدلالة منذ القديم بين دلالة المطابقة  (Denotation)  ودلالة التضمّن (Implication) ودلالة الالتزام (Connotation).

من خصائص ظلال المعنى أنها تقدَّم في الخطاب وكأنها ليست الهدف المراد إبلاغه، ولذلك تمثل مدلولات لا تلقى عنتا في تلقّيها وتمثلها، فهي تلبس رداء غيرها، وهي تقدّم في حيّز المسكوت عنه من الضمنيات التي تبدو كالمتفق عليه أو التي يراد لها أن تبدو كأنها من المتفق عليه الذي لا خلاف حوله، ولذلك يتكثف المعنى وتتراكب مستويات دلالية كلما وجدت دلالة التزامية، وخاصية الإيهام هذه هي ما جعل رولان رولان بارت (Roland Barthes) (1915- 1980) يخصص فصلين في مقدمة كتابه (S/Z) للدفاع عن دلالة الالتزام ضدّ السيميولوجيين والفيلولوجيين، فيقول في بيان أهمية دلالة الالتزام : “إنّ دلالة الالتزام هي السبيل إلى تعدد المعنى في النص الكلاسيكي، إلى هذه الوفرة المضبوطة التي تؤسس النص الكلاسيكيّ”[5].

  والمتأمل في كتابات رولان بارت يجد احتفاء خاصا بمناطق من المعنى ليس من المتداول الاحتفاء بها، وقد تجلى ذلك في أنّ حديثه عن دلالة الالتزام يرد تقريظا تارة واستشرافا بأنها المستقبل الحقّ للسانيات تارة أخرى[6]، فمن الناحية الوظيفية تعدّ دلالة الالتزام “تشويشا” (bruit ) يعتري المدلول المطابَقي ولكنه نِعم التشويش فهو يفسد تلك السكينة العقيمة التي بني عليها تصوّر آحادية المعنى[7]،

وهذه القيمة التي يعلنها رولان بارت لدلالة الالتزام تجلت على نحو حقيقي في سياقات تطبيقية مثل الأسلوبية والترجمة، فجورج مونان  (Georges Mounin) (1910-1993) مثلا يعرّف دلالة الالتزام بأنها “ما يعْلق بالمدلول من حواش دلالية ذاتية”[8]، ولكن هذه الحواشي تمثل مكونا دلاليا لا ينبغي إهماله، فمونان يرى في سياق دراسته للمسائل النظرية للترجمة أنّه “أيا كان تصنيفنا للدلالات الالتزامية وأيا كانت تسميتنا لها فإنها تعتبر من اللغة، ويجب أن تترجم شأنها شأن كل المدلولات المطابقية”[9]، وهو أمر يثير في الحقيقة عدة مشكلات رأسها عدم تماثل الحوامل بين الألسنة، ومثال ذلك صوت الراء في الفرنسية والقاف في العربية، فلكل منهما صور في الإنجاز ذات مدلولات اجتماعية تتجاوز المستوى المقطعيّ، ولكن صعوبة ترجمة هذه المعاني الثواني هي مما يمكن أن نعرّف به دلالة الالتزام، فعند الترجمة فإنّ الالتزامي من الدّلالة هو في أكثر الأحيان ما لا يمكن ترجمته من لسان إلى آخر، وهو أمر ذو طبيعة تصورية، ذلك أنّ الوحدة اللغوية تعلق بها في المستوى التصوّري زوائد دلالية، فتلازمها حتى تكون بمثابة الجزء من مدلولها المطابقيّ، ومثال ذلك صفة “يهودي” في متداول اللغة العربية، فدلالتها الأخلاقية جعلتها تكاد تتمحّض للدلالة على الشرّ المطلق في الأخلاق، ومثل ذلك تباين تصوّر البهلوان/ المهرّج في الألسنة الهندية الأوروبية، فكلمة (clown) في اللغة الأنغليزية تحيل على البريء الساذج، ويدلّ مقابلها في اللسان الألباني (pehlivan) مثلا على الماهر القادر على حياكة الألاعيب[10]. ومن منظور جورج لايكوف تعتبر هذه الزوائد الدلالية وجها مهمّا في تفسير الاشتراك اللغويّ، وقد اختبر لايكوف ذلك انطلاقا من كلمة Bacheleor  الأنغليزية، فكثيرا ما يمثل المعنى اللزومي المرتبط بماصدقات مختلفة نواة دلالية لأجلها يطلق الاسم الواحد على أكثر من مسمى[11].

 ولذلك نقدّر أنّ ما يحمله جورج مونان على سبيل الوجوب ليس إلا على سبيل إعلاء سقف ما يجب أن ينتظر من المترجم، ولعلّ ذلك هو ما يجعل كلّ ترجمة مشوبة بما يسمى مبالغةً “خيانة مّا للنصّ المترجم “. وكذلك الأمر بالنسبة إلى فكرة الضيم في تصوّر الجاحظ للترجمة فإنّها عبارة صيغت بمنظور وصفيّ لا معياريّ إذ الجاحظ يصف بذلك العمليات الذهنية في نشاط الترجمة ، ومُضْمَر ذلك هو الخطر الجليل لنشاط الترجمان على نحو يقتضي الحيطة وحسن الاستعداد، وعلى ذلك النحو أيضا تُفهم صفة الخيانة في الترجمة.

[1]  ترجة المثل الإيطالي على هذا النحو هي ما اقترحه صالح القرمادي في مقدمته لترجمة الطيب البكوش لكتاب جورج مونان “مفاتيح الألسنية”

[2] Joachim du Bellay, Défense et illustration de la langue française.

[3]  الجاحظ، الحيوان، دار الكتب العلمية – بيروت، ج1، ص 54.

[4]  محمد عناني، نظرية الترجمة الحديثة، الشركة المصرية العالمية للنشر، مصر، 2003، ص 27.

[5]Roland Barthes, S/Z, ed Seuil 1970, p 14.

[6] Roland Barthes, éléments de sémiologie, p 131.

[7] ibid, p 15.

[8] George Mounin, La Communication poétique, précédé de Avezvous lu Char ?, Gallimard, 1969, p 25.

[9] George Mounin,  Les problèmes théoriques de la traduction, Gallimard, Paris,  1963, p 166

[10] Mimoza Rista-Dema, Language Register and the Impacts of Translation: Evidence from Albanian Political Memoirs and their English Translations, in “political discourse analysis” edited by S. G. Obeng and B. A. S. Hartford, Nova Science Publishers, New York,2008, p 7

وتقديرنا أنّ عماد الخطاب الإشهاري هو تكثيف القوّة الدلالية الكنائية للفظ وتفقير مدلوله المطابقيّ، ولذلك يعمد أصحاب صناعة الإشهار إلى زاوية في المادة الإشهارية تكون طيّعة للشحن الدلاليّ، فيعرجون بإدراك المتلقي عن الدلالة المألوفة إلى دلالة تلقى في نفسه هوى، وأكثر المداخل اليسيرة في مثل هذا السياق مداخل المحظورات كالجنس مثلا.

انظر مثلا:

– Elsa Simões Lucas Freitas, Taboo in Advertising, John Benjamins Publishing Company, Amsterdam-  Philadelphia, 2008, p 44

وتذكر مؤلفة الكتاب في هذا السياق أنّ قناة TVI –وهي التي كانت ملكا للكنيسة الكاثوليكية في منطلق بثها- كانت تمتنع امتناعا مطلقا عن عرض كل إشهار لموادّ محظورة أو محتو على مادة مخلة، وعندما انتقلت ملكية القناة إلى شركة خاصة تخلت عن كلّ تلك الخلفية الكاثوليكية، وصاغت لها سياسة إدارة جديدة، فاقتضى منظور الربح أن يصبح ما حيدته القناة في الماضي جزءا من مداخل الربح في حاضرها (انظر ص 11 من الكتاب)

[11] انظر

Lakoff (George), Women, Fire and Dangerous Things : What Categories Reveal about the Mind, The University of Chicago Press, Chicago and London1990

وقد طبّق الأزهر الزناد ذلك على مثال لفظ “العين” في العربية.

انظر:

الأزهر الزناد، فصول في الدّلالة ما بين المعجم والنّحو، (الفصل الأوّل: مراتب الاتّساع في الدّلالة المعجميّة المشترك في العربية “عين” نموذجا) منشورات محمد علي الحاميّ، تونس، الدار العربية للعلوم ناشرون، لبنان، دار الاختلاف، الجزائر، 2010، ص ص 15-42.

اللغة العربية والإسلاموفوبيا

 

houcine
د. حسين السوداني

اللغة العربية والإسلاموفوبيا

د.حسين السوداني 


يكتنف  مصطلحَ الرُّهَابِ –ومقابله اللاتيني الفوبيا- سياقٌ تداوليٌّ ذو ثلاث خصائص، أولاها أنّ  الرُّهاب قرين انفعال سلبيّ تجاه ظاهرة أو جهة معيّنة، وهذا الانفعال يترجَم سلوكيا  في موقف سلبيّ إزاء كلّ ما له علاقة بموضوعه. لذلك يمثّل الرهاب موقفا نفسيا عامّا. وفي السياق التواصليّ ، يحدد الرهاب موقفا من الآخر يتجلى في  الأنواع التي أصبحت الدراسات تفرّع الرهاب  إليها، فمن ذلك  الكلوستروفوبيا-رهاب الأماكن المغلقة-  والأغْرَفوبيا (Agraphobia) –أي رهاب  الاغتصاب- والهوموفوبيا  (Homophobia)–أي رهاب المثلية الجنسية-  والأغورافوبيا (Agoraphobia ) –أي رهاب الميادين-  والألّودوكسافوبيا (Allodoxaphobia) –أي  الرهاب من  آراء الآخرين- والأندروفوبيا ( Androphobia) وغيرها..[1].

والخصيصة الثانية لمصطلح الرهاب أنه يقع في تقاطع مباحث وعلوم كثيرة مثل علم النفس وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا وغيرها. وفي كل هذه المباحث إقرار بأنّنا إزاء ظاهرة مرَضيّة. والمعيار في ذلك أن كلّ ما يقع حاجزا أمام التواصل هو من الأعراض التي تفسد الاجتماع الإنسانيّ. فأن يكون  “الإنسان مدنيا بالطبع” معناه أنّ كلّ ما زاغ عن هذا السَّنن العام يعدّ مفسدا للاجتماع الإنساني.

وتتجلى الخصيصة الثالثة لظاهرة الرهاب في ما يصاحبها من الأعراض التواصلية. وهو أمر يجعل علمَي اللسانيات والسيميولوجيا مخوّليْن بأولوية اعتبارية واختبارية للنظر في الظاهرة. فمن المنظور التواصلي العامّ، تنبني عملية التواصل على تضافر بين ستة أركان متكاملة ومتشارطة في توجيه التواصل إلى مسار معيّن. وهذه الأركان أوّلاها هما  طرفا الخطاب باثا ومتقبلا، وثالثها هو الرسالة التي تشكّل مضمون الخطاب، ورابعها هو قناة التواصل من لغة أو إشارات أو غيرهما. وخامسها هو السَّنَنُ متمثلا في القواعد التي يتواضع عليها المتخاطبون ليفهم بعضهم رسائل بعض. وسادس الأركان وأخطرها هو السياق، وهو الذي يفرَّع عادة إلى الظروف الزمانية والمكانية الحافة بالتواصل من جهة وإلى العلاقات الاجتماعية بين أطراف التواصل من جهة ثانية.

ويقوم المنظور التقليدي  للسياق على تمييز بين سياقين: داخليّ نصّي (cotext)  وخارجيّ مقاميّ (context)، ولكن الوجهين ينصهران من المنظور اللساني العرفاني في بوتقة واحدة هي الذهن. ومن وجهة نظر ولسن (Deirdre Wilson) وسبربر  (Dan Sperber) صاحبيْ “نظرية الإفادة” (Relevance Theory)  يوجِّه الذهنُ نشاط مدخَلات التواصل ومخرَجاته ويتحكم في مساراته انطلاقا من الذاكرة بتفريعاتها الثلاثة: القريبة والمتوسطة والبعيدة[2]. وإذا كان المستويان الأولان متكوّنيْن من الذاكرة اللغوية المتعاملة مع النصوص،فإن الذاكرة بعيدة المدى تتألف من الرصيد الفردي من معلومات مخزّنة من التجربة في الكون في كلّيتها. فلذلك تستجمع هذه الذاكرة معطيات منها اللغوي ومنها النفسي، وعلى نحو لا يمكن في كل الحالات ضبط مولداته ومنشإ قوادحه الأولى.

فلذلك يجمع العرفانيون هذه المحددات انطلاقا من مفهوم أساسي هو “المعارف الموسوعية” (encyclopaedic memory). وما هو دقيق في علاقة ذلك ممّا نحن بصدد دراسته أنّ ما يخزّنه أطراف التواصل يشكّل على نحو صارم أبنية ذهنية تهيكل نظرتنا للآخر ولما يصدر عنه من أقوال وأفعال وأحوال. ومثال ذلك أنّ ما ترسّب في الذاكرة الموسوعية الجماعية من صور ومشاهد شديدة التواتر في السينما المصرية مثلا هو أمر قد ساهم في ترسيخ أبنية ذهنية كثير منها ننفعل له ونسلّم به حتى إنّ هذه المشاهد قد غدت تشكّل ما يسميه اللسانيون العرفانيون “منوالا عرفانيا مؤمثلا” (Idealized Cognitive Model )  ومن منظور جورج لايكوف (George lakoff) تتحكم هذه المناويل العرفانية المؤمثلة لا في فهمنا فحسب، وإنما كذلك في تنظيم معارفنا ورؤيتنا للعالم والأشياء[3].

إن المثال النموذجي لهذه الأسس العرفانية في توجيه التواصل هو الصورة النمطية التي رسخت عن اللغة العربية في الذاكرة الجماعية للمشاهد العربي عبر ما يفوق القرن من تاريخ السينما المصرية، وما هو دقيق هنا أنّ هذه الصورة النمطية قد نُحتت على نحو من المواظبة والانتظام جعل العربيّ –مسلما كان أم غير مسلم- يتمثل في لاوعيه صورة للغة العربية أكثر سلبية من الصورة التي يؤاخِذ عليها غيره في وعيه.

وتفصيل ذلك أنّ اللغة العربية تُستحضر عبر تاريخ السنما المصرية الناطقة باللهجة المحلية في ثلاثة سياقات نمطية ألِفَها المشاهد حتى استقرت من انتظاراته حين تقود حبكة الأحداث إلى مشهد منها.

أوّل هذه المشاهد النمطية هي صورة يلهي المشاهدَالحصيفَ والبسيطَ إضحاكُها  عمّا فيها من أبعاد. ونقصد صورة عدل الإشهاد –أي “المأذون”- وهو يظهر  في زيّ ناشز عن محيطه ومفتعلا للغة عربية تجعله بحكم النشاز محطّ سخرية الجميع، حتى إن مشهد عدل الإشهاد قد غدا المقطع الثابت الذي تقطع به رتابة الأحداث. ولهذا المشهد النمطيّ امتداد في غيره من المشاهد حيث تكون ملازمة اللغة العربية سمة الشخصيات الناشزة والخارجة عن التاريخ.

والمشهد النمطيّ الثاني هو أن اللغة العربية هي في المشاهد التمثيلية السنمائية والمسرحية  لغة كل الشخصيات ذات الخلفيات الدينية المتطرفة والتي تمارس العنف، وحتى إن كانت هذه الشخصيات تتكلم اللهجة اليومية فإنها إذا أقدمت على فعل إرهابي أو اجتماع إعدادي لذلك، فإنّ اللغة العربية الفصحى تكون الحامل اللغوي لذلك. ويضفي السجلّ القرآني على كلام الشخصيات صرامة عالية تنزع عن الشخصية نسبية الفكرة ومرونة الحسّ الإنسانيّ. وهذه الصورة ترسّخها التصريحات التي تقدّم في وسائل الإعلام بعد كل عملية، فكأنّ من مقومات صدقية تصريحات المجموعات الجهادية أن تكون بلغة عربية فصيحة قرآنية السّجلّ.

والمشهد الثالث الذي ترسخه السينما المصرية للغة العربية في ذاكرة المشاهد العربي هو صورة الشخصية الأنكد النَّكِد،  وهي تتكلم بلغة عربية تفسد متعة غيرها من الشخصيات المتمتعة بزينة الحياة ولهوها، وبالنحت الهادئ المستمر على الذاكرة ترسّخت صور نمطية في الذهن،  وانطلاقا مما تفضي إليه لعبة القرائن في نظرية الانعكاس الشرطي لبافلوف (Pavlov) تنشأ مجموعة من ردود الفعل المشروطة، فبشكل غير واع يجد المشاهد نفسه في مفاضلة متجددة متواترة بين نكد وحزن قرينيْ عربية قديمة آتية بقيمها وأصواتها وضوابطها من أزمنة سحيقة غريبة في تصوره، وبين فرح ونشوة لصيقيْ لهجة عامية تحاك صورتها باعتبارها الأحرى لتكون لسانا بديلا ما دامت هي الأسلم قيما ورؤية.

وعلى ذلك المنوال يفهم الباحث الحصيف ما يجده اليوم من مظاهر تشويه للذاكرة اللغوية للأجيال القادمة انطلاقا من عمليات ترويع إعلامي عماده اقتران لا شكّ أنه يعَدُّ له في أعتى المختبرات العلمية، فالعربي اليوم أمام آلة إعلامية كونية تحرص على ترسيخ صورة فيها أشرس صور التزامن بين الفعل والقول: فعل يدٍ تريق الدم بوحشية غير آدمية، وقول لسانٍ يشرّع للقتل بعربية قرآنية منضّدة . وتقديرنا أنّ هذه المشاهد التي تُبث في القنوات الإخبارية وتخلّد في الحوامل الالكترونية تشكل أعتى حرب تشنّ على الذاكرة اللغوية العربية عبر التاريخ.

إنّ ترسيخ هذه الصور النمطية في المخيال الجماعي انتهى إلى أمرين خطيرين، أولهما مجاله  لغوي، فقد أدّت هذه الصور النمطية  إلى ضرب من البطانة الوجدانية في علاقتنا باللغة العربية، ففي صريح القول هي مقوّم الهوية ، ولكنها في مستور اللاوعي ومخبوئه مدعاة إلى الغربة والخوف وقرينة على التخلف والوهم. وتقديرنا أنّ هذه الصور النمطية الراسخة عن اللغة العربية تتجاوز الوعي إلى اللاوعي، ولذلك نراها – بنفس تقدير فرويد للاوعي- تمثل كلُوما عميقة لا يزول أثرها بيسر. ويتجلى ذلك في ظاهر الخطاب انطلاقا من انخراط بعض مثقفينا فيما يسميه مصطفى حجازي “استبطان القهر”، وذلك انطلاقا من نمط تفكير تبريريّ موغل في السلبية[4].

والأمر الثاني يتمثل في أنه  ينشأ بضرب من التدرج الخطّي في الاستدلال تلازمٌ بين ثالوث العربية والإسلام والإرهاب. فتكون المقدمة الأولى “العرب والإسلام سيّان” وتكون الثانية “الإسلام والإرهاب سيّان” لتكون النتيجة المستنبطة ترابطا بين العربية والإرهاب. ونؤيد في ذلك ما يخلص إليه عبد السلام المسدي من أنّ كثيرين ذهبوا  إلى أن اللغة التي بها جاء الإسلام وبها نزل نصّه المقدّس تحمل في كيانها بذور العنف وَمَنابت البغضاء، وأنها بذاتها عدوانيّة تسوّق الكرْه وتحرّض على الإقصاء[5]، ومن كل ذلك ينشأ تلازم تلقائيّ بين فوبيا الإسلام بشكل مباشر وفوبيا العربية بشكل غير مباشر.

ومن غريب المآلات العكسية للانتظارات أنّ الترابط بين العربية والإسلام يؤول في أغلب الأحوال إلى أن ذلك الخصم الذي يعتنق الإسلام من باب تعلم اللغة العربية إنّما يعتنقه بقناعة أنه دين سلام. وبالتالي يغدو الترابط بين العربية والإسلام على غير ما يذهب إليه أصحاب الاستدلال السابق. فينشأ في أذهانهم ترابط آخر وخشية أخرى من أن متعلم اللغة العربية من غير المسلمين هو مشروع  مسلم. فالإحصائيات تشير إلى التنامي اللافت  لعدد المقبلين على تعلم العربية بعد كل حدث من الأحداث الكبرى التي هزّت العالم خلال العقود الأخيرة، ورأسها حدث تفجير الأبراج في أمريكا ثم أحداث المترو في إسبانيا. ومع كل موجة تعلّم للغة العربية يتضاعف عدد المعتنقين للإسلام. وهو ما ولّد شكلا جديدا من الفوبيا التي تعلنها بعض الدراسات الاستشرافية للمستقبل الديمغرافي في أوروبا في ضوء معطيات إحصائية توضّح تناميا مطردا لعدد المسلمين في كثير من دول أوربا.

وفي ضوء هذه المعطيات يجد الباحث اليوم أنّ اللغة العربية قد أصبحت من المكونات الأساسية في السياسة اللغوية لكثير من الدول غير العربية، فمن ذلك أن  جون وُورن (John Worne) مدير الاستراتيجيات في المجلس الثقافي البريطاني يشير إلى أن تحليل المؤشرات الاقتصادية والثقافية يكشف عن حاجة متزايدة إلى متكلمين بألسنة أخرى غير الفرنسية والإسبانية والألمانية، وعلى رأس هذه الألسنة اللغة العربية[6].

والتبصر العميق بالقضايا الثقافية الكبرى في الكون اليوم يخلص إلى أن المسألة اللغوية في بعدها الواسع هي عصب القضية الثقافية، فاللغة العربية اليوم مركز ية في وعي العربي والمسلم  بذاته، وذلك باعتبار كل التقاطعات الممكنة بين العروبة والإسلام. ولكنها فوق ذلك كله مركزية في وعي الآخر بنا، فمن منظور عام يعَدّ كلٌّ آخرًا مّا لغيره، فالذي يعتبرني آخَرَهُ هو في نفس الوقت آخَرِي،  وإنما سبيل كلّ منا إلى نظيره هو اللغة.

إنّ الترابط الوثيق بين العربية والإسلام جعلها اليوم مرجعية اعتبارية مقدسة لأضعاف عدد المتكلمين بها، وسبل النضال اللغويّ اليوم تقتضي منطلقا أساسيا هو أن الإنسان اليوم مواطن يسكن العالم وأن لهذا العالم اليوم أدوات اتصاله السريعة،  وبالتالي لا يقتضي النضال والحال تلك أن يكون بالضرورة باللسان المحلّي ولا أن يكون بالأدوات التقليدية. ففي ضوء الثورة الاتصالية الراهنة وما يرتبط بها من قيم الذكاء، غدا مفهوم القوة الناعمة أساسا مركزيا في الخيارات الاستراتيجية للدول منذ نظّر لهذا المفهوم جوزيف ساموال ناي (Joseph Samuel Nye) في كتابه الصادر في مطلع القرن الحادي والعشرين بعد أن أدمت آلة الحروب أمريكا  ودمرت شعوبا لم تختر الحرب، فورد الكتاب بعنوان “القوة الناعمة: سبل النجاح في السياسة العالمية”[7] ليلخص العنوان تصورا جديدا في إدارة الصراعات وفي السياسة الدولية. واللافت في هذا الكتاب احتفاء صاحبه باللغة وإبرازه لسطوتها وسلطانها من خلال معطيات دقيقة، لاسيما خلال فترات الحروب والمدّ الاستعماري في القرن العشرين.

قد يكون من أوجه الفرادة في تاريخ اللغات أن كل لسان يرتبط بنص مقدّس سرعان ما يتلاشى تحت وطأة التجاذب غير المتكافئ بين النصوص المقدسة باعتبارها معطى ثابتا مثبِّتا، وبين اللغة باعتبارها كائنا تاريخيا يأبى إلا أن يتطوّر. وبحكم هذا القانون العام تنتهي كلّ لغة ترتبط بنص مقدس لتكون لغة تضعُف ثم تتلاشى فتغدو لغة متحفية إلى أن تُقْبَر فيقتصر استعمالها على أوساط البحث والتخصص الدقيق. ولكن لسان العرب قد جسّد الاستثناء في هذا القانون اللغوي، فاللغة العربية  والإسلام مترابطان على نحو يجعل النسبة إلى أحدهما كالنسبة إلى الآخر، وإن ظاهرة الإسلاموفوبيا لتجد تجليها العميق في فوبيا أخرى تجدها اليوم لا لدى غير المسلم –كما في الإسلاموفوبيا- وإنما تجد آلتها في العربي نفسه، وهو الذي يكتسب هويته بنسبة لا يختارها إلى لسان العرب، وهي فوبيا اللغة العربية أو “العربوفوبيا”. وتقديرنا أن بين العربية والإسلام ما يقتضي جعل الدفاع عن هذا اللسان من الذود عن الإسلام.

د.حسين سالم السوداني

soudani.houcine@gmail.com

[1]Brindley, M., Fears and phobias that can spiral out of control. Western Mail,  2007, Apr 09, P  20

[2] Dan Sperber and Deirdre Wilson, Relevance: Communication and Cognition, 2nd Edition, Blackwell, Cambridge, Massachusetts, 1996, P 86.

[3] George Lakoff, Women, Fire and Dangerous Things : What Categories Reveal about the Mind, The University of Chicago Press, Chicago and London1990, p 68.

[4]  مصطفى حجازي، الإنسان المهدور: دراسة تحليلية نفسية اجتماعية، المركز الثاقافي العربي، المغرب-لبنان، 2005.

[5]  عبد السلام المسدي، الهُوِيّة العربيّة والأمن اللغويّ: دراسة وتوثيق، منشورات المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة 2014، ص 12.

[6] John Wornem, Languages for the future, British Council, 2013, p3

[7] Joseph Samuel Nye Jr, Soft Power: The Means to Success in World Politics, Public Affairs, 2004.

اللغة والسعادة

 

houcine
د. حسين السوداني

اللغة والسعادة

                                                                    د. حسين السوداني

 


يكتنف لفظ السعادة إطار لغوي وقيمي ونفسي دقيق، فلفظ “السعادة” يعدّ اسما في منتهى العموم من حيث مدلوله وفي منتهى الخصوص من حيث تجسُّده.  وإنما مردّ ذلك إلى أنّ هذا اللفظ، العامَّ من وجه الخاصَّ من وجه آخر، يختزل حركة الإنسان في الوجود. ويتأكد ذلك انطلاقا من اللفظ المقابل لصفة “السعيد”، وهو “الشقيّ”، ووفق هذه الثنائية حُدّد الحال والمآل بأنّ الناس “مِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ” [هود: 105]. فمن المنظوراللغوي يضاهي لفظ السعادة لفظ الشقاء في أن مدلولهما هلاميّ متعدد بتعدد المتكلمين.

ومن أوجه العموم أنّ السعادة تتجلى في اللغة  وفق أبنية استعارية تصوّرية تقوم بالأساس على علاقات فضائية ليست خاصة بلغة محددة وإنما هي من الكليات الاستعارية العابرة للغات. من ذلك أنّ  ما يحيل على السعادة تدلّ عليه مفردات العلوّ، وما يرتبط بالشقاء تدلّ عليه مفردات السفول، كما في استعارات “قمة السعادة”  وذروة السعادة” و”أوج السعادة”[1] و”حضيض الشقاء” و”درك الشقاء” [2]. ومثل ذلك ما يسند من أفعال إلى السعيد والشقي ، فالسعيد “يطير من السعادة”  والشقي “يُسْقَطُ في يديه” و”يضيق ذرعا” و”يغرق في همومه”، وغير ذلك من الاستعارات التي تبدو ترشيحا  (extended metaphor) لاستعارات مركزية قائمة على أساس فضائيّ.  وتقديرنا أنّ التصور الثقافي الإسلامي يذهب بالتصور الفضائي للسعادة إلى أفق غير متناه عماده إرساء تصوّر للفضيلة غير متناه، وذلك في الصيغة الأمرية المكثفة في الحديث النبويّ “تخلقوا بأخلاق الله”. ففي هذا المنظور الإسلامي تتكامل فسحة الحال مع فسحة المآل انطلاقا من النعت الذي أُلحق بلفظ السعادة عند الفارابي في كتابه “تحصيل السعادة”، فقد أُحل تركيب “السعادة القصوى” محل لفظ “السعادة” مفردا، وأقيم للسعادة مفهوم نبيل انطلاقا من وصل سببيّ بين الفضيلة والسعادة، فاعتبر الفارابي أنّ “الأشياء الإنسانية التي إذا حصلت في الأمم وفي أهل المدن حصلت لهم بها السعادة الدنيا في الحياة الأولى والسعادة القصوى في الحياة الأخرى أربعة أجناس: الفضائل النظرية والفضائل الفكرية والفضائل الخلقية والصناعات العملية”[3].

وينسجم هذا التصور  الواصل بين السعادة والفضيلة مع استقراء دارين ماك ماهن (Darrin McMahon) في كتابه عن تاريخ السعادة[4]  حيث يحذو ما حذاه من قبله هاوورد مومفورد جونز (Howard Mumford Jones) المؤرخ في جامعة هارفارد إذ يشير إلى أن التأريخ للسعادة يجب أن لا يكون مجرد تأريخ للبشرية وإنما تأريخا للفكر الأخلاقي والفلسفي والديني.

وانطلاقا من التشارط والتلازم بين الحركة والمآل حصر الفارابي الغاية من الوجود بتركيب حصري مؤكّد فقال: إنّ كل موجود إنما كُوّن ليبلغ أقصى الكمال الذي له أن يبلغه بحسب رتبته في الوجود الذي يخصه. فالذي للإنسان من هذا هو المخصوص باسم السعادة القصوى وما لإنسانٍ إنسانٍ من ذلك بحسب رتبته في الإنسانية”[5]  ويتناغم هذا التصوّر مع التصور الأرسطي لفكرة السعادة (eudaimonia) [أي “εὐδαιμονία” بالللفظ اليوناني] الذي يعتبر أن السعادة “هي في نفس الوقت -وعلى نحو غير منفصل- الأفضل والأجمل والأحب مما يمكن أن يوجد”وهي الغاية القصوى للحياة ولكل ما نفعله[6]. فلذلك توجد من منظور أرسطو علاقة تشارط بين السعادة والفضيلة طالما أنّ السعادة هي من أفعال النفس لا الخارج[7]

إزاء هذه الغاية القصوى يتساءل أرسطو إن كانت السعادة شيئا نتعلّمه ونكتسبه، أم نتدرّب عليه بالمران والمراس، أم نُلهَم إياه بضرب من الصفة والتأييد الإلاهي. وبمنهج تأمّليّ خلص أرسطو إلى أنّ  السعادة –من حيث هي غاية- ليست مناقضة للعقل، وإنما هي غايته الطبيعية، وفي ذلك ما يجعل السعادة قرارا واعيا وحاصلا برويّة، فمن منظور أرسطو فإنّ “السعادة ملازمة للتفكّر، وكلما زاد تملكنا لملكة التفكر زادت سعادتنا، فلا مجال لسعادة بالصدفة، وإنما بالتفكّر، ذلك أنّ للتفكر نفسه ثمنا باهظا، والذي ينجم عن ذلك أنّ السعادة إنما هي ضرب من التفكّر”[8]

وبصيغة تقريظيّة يخلص أرسطو إلى أنّ “السعادة تدخل في دائرة الأشياء الجديرة بالشرف والكمال، وإن كانت تلك طبيعة السعادة فإنما ذلك لأنها مبدأ. ولأجل هذا المبدإ نفعل كل ما نفعل، ونحن نقدّر مبدأنا وحافزنا إلى ما نحققه باعتبارهما من الأشياء الجديرة بالشرف والقداسة”[9]

من هذا المنظور تتأسس روابط تلازم بين ثالوث السعادة والفضيلة والفكر، فمقتضى الضلع الأول ضمن  هذا المثلث أنّ السعادة قرارٌ يُتخذ بفكر وروية، وليست قدرا تأتي به الصدف، ومقتضى الضلع الثالث أنّ السعادة –وهي أنبل قيمة- هي محرّك النفس إلى أعلى الفضائل، ومقتضى الضلع الثالث أنّ الفضيلة والفكر صنوان.

وبالتالي تكون السعادة حركة وهدفا، فهي حركة النفس وغايتها [10]، أي هي سيرورة وصيرورة، وليست شيئا معطى جاهزا سلفا[11]. فإنما السعادة عندئذ حالة وتمثل في النفس لا وضعا في الخارج.

ولعل تصوّر السعادة على هذا النحو هو ما يمثّل خصوصية أساسية في الثقافات ذات العمق الروحاني العالي، ففي دراسة مقارنة بين التمثيلات الاستعارية للسعادة في اللغتين الأنغليزية والصينية توصّل  كسياو ليو (Xiao Liu) وغودنغ زهاو  (Guodong Zhao) إلى أنّ خصوصية استعارية مهمّة في اللغة الصينية أساسها وصف العواطف باستعارات قائمة على الاحتواء. ففكرة السعادة ترتبط في اللغة الأنغليزية بالخارج، ومن أمثلة ذلك في الأنغليزية:

  • استقرّا بين السحب (They were in the clouds.)
  • كان يطير من السعادة (He was just soaring with happiness.)
  • غدوت على مسافة ستى أقدام من الأرض (I’m six feet off the ground.)
  • لقد كنت أطفو (I was floating)

وخلافا لهذه الاستعارات البرّانية في اللغة الأنغليزية، تجد في اللغة الصينية استعارات تكرّس السمة الجُوّانية لتصوُّر السعادة، ومثال ذلك في اللغة الصينية استعارة “السعادة ورد في القلب” . ومن تجليات ذلك أيضا أن تجد في اللغة الصينية استعارات تعبّر عن السعادة بمفردات ترتبط بأعضاء الجسد مقابل استعارات في اللغة الأنغليزية تحيل على الفضاء والخارج[12].

ولعل القيمة الأساسية لهذه المقارنة أنّها تمثل عيّنة دالة على اشتغال النظام الاستعاري الواحد بشكلين مختلفين وفقا للاختلافات الثقافية. فاستعارة الاحتواء (محتوٍ/ محتوًى) لها في السياق الأنغليزيّ روافد ثقافية تشدّ عاطفة السعادة إلى معاني الخيلاء والحركة، في حين ترتبط العاطفة نفسها في السياق الصيني بروحانية تشدّ السعيد إلى الانطواء والداخل.

وإننا لنجد أنّ التصوّر الفلسفي في أصوله اليونيانية وفي تأصيله العربي الإسلامي هو عيّنة من إطار تصوّري عامّ للسعادة  كما تُتمثل في الألسنة البشرية، فتَمثُّل السعادة متحقق باعتبارين مجازييَّنْ ناظمين لكل الصيغ التعبيرية المتعلقة بالسعادة. أما الاعتبار المجازي الأول فأنّ “السعادة هدف” (Happiness is a target)، وأما الثاني فأنّ “السعادة مسار” (Happiness is a process).

ومن ملامح كونية هذا الأساس الفضائي الاستعاري في تصور السعادة أنّك تجده عابرا للحضارات عبر الزمان والمكان، وهو ما برهنت عليه آنا فيرزبيكا (Anna A. Wierzbicka) في دراستها للغة الأحاسيس عبر اللغات والثقافات[13]

وأساس الاعتبارين الاستعاريَّيْن أنّ التعبير اللغويّ عن الاستعارة يقوم على أساس فهم مجالٍ هدفٍ (target domain) بمفردات مجالٍ مصدرٍ (source domain)، وهو منطلق الدراسات اللسانية الراهنة في تعريف الاستعارة باعتبارها “إسقاطا (بالمعنى الرياضي للكلمة) انطلاقا من مجالٍ مصدرٍ على مجال هدف”[14]  أي تعبيرا عن مجال نظر معيّن بمكونات مجال نظر آخر. وهو مستوى استعاري عابر للألسنة البشرية لأن مجاله تصوّري ذهنيّ على نحو ما يوضحه جورج لايكوف (George Lakoff ) ومارك جونسون (Mark Johnson) في “الاستعارات التي نحيا بها”[15]

أما استعارة “السعادة هدف” فتتجلى في اللغة في جعل السعادة نقطة وصول، واعتبار السعي إليها طريقا. وعلى هامش ذلك تنشأ أبنية استعارية عديدة، فالهدف يلاحَق وتُعمل له كلّ حيلة، وللسائر فيه معرقلون ومساعدون.. ولقد جسّدت السينما الأمريكية هذه الاستعارة في بناء سرديّ متين في شريط سينمائي يلخص هذه الاستعارةَ، وعنوانُه “ملاحقة السعادة” (Pursuit of Happiness)[16]

وأما استعارة “السعادة طريق”، فعمادها اعتبار السعادة مسارا لا نقطة نصبو إليها ونقف عندها، وبالتالي يعتري هذه الرحلة ما يعتري السير في الطريق في معناه الحقيقي، ففيه صعوبات وعراقيل، وتهدده إمكانيات توقف وتعب. وخلال ذلك ينشأ الصراع وتكون مآلات التوقف أو المواصلة. وبين تصوّر “السعادة هدف” وتصوّر “السعادة مسار” يحتدم جدل وسجال يتجلى فلسفيا في اتجاهات تثمّن حركة الإنسان وسعيَه إلى الغاية، وترى في الحركة معنى الحياة وعلة الوجود. وذلك على النحو الذي نجده في الوجودية المؤمنة[17].

ومن المنظور الوجودي نفسه نرى أنّ العلاقة بين اللغة والسعادة ليست مجرّد علاقة المعنى بالعبارة، فالسعادة من حيث هي معنى يمكن أن تجد لها في غير اللغة المنطوقة والمكتوبة ما يعبّر عنها. فإن لم يكن الأمر كذلك فكيف للأبكم والأصمّ  أن يسعد؟ !

إن السعادة كيفية في الإقامة في الوجود، وهي في الآن نفسه كيفية في الإقامة في اللغة، واللغة هنا بمعناها الواسع، وقد أثبتت دراسات أنجزت منذ مطلع سبعينيات القرن العشرين أنّ للسعادة في قسمات الوجه تعبيرات كونية. فقد توصل إيكمان (Ekman) إلى أن السعادة من العواطف العليا التي لها صورة كلية (Gestalt) ترتسم على المحيّا وفق ملامح كونية يراها المرء على الغريب فيدركها[18].  وهو ما يوظَّف في إيجاد تعبيرات عن العواطف والانفعالات الأساسية انطلاقا من تشكيلات محددة ومحدودة العدد لتعبيرات الوجه (Emoticons) على النحو الذي يستعمل في شبكات التواصل الاجتماعي.

إن الحضارة العصرية تكرّس مفهوما للسعادة أساسه النزوع إلى التملك في أشكاله وتجلياته المختلفة، وأعتى درجات هذا النزوع هو سلوك الاستهلاك الذي جعل السعادة شيئا في خارج الإنسان لا داخله، وبالتالي ضعف ذلك التشارط المتين الذي يصل السعادة بالفضيلة على النحو الذي تعرضنا له آنفا، وحلّت محلّ التعريف الجُوّاني للسعادة فوضى تعريفات برانية لها. ومقابل الفضيلة حلّ مبدأ الفردانية (Individualism) وهو المبدأ الذي يعدّ من منظور ميشال فوكو محركا محددا للقيم في الحياة العصرية. فالسعادة من المنظور المعاصر شديدة الصلة بالتملك، ونقيضه الفقد. وهذا الإحساس هو مجال استثمار الآلة الرأسمالية الجشعة، فهي تجدد جوع الإنسان ورغبته في الجديد على نحو يغيّبه عن داخله ويدمجه في خارج لا يستقرّ.

والغريب في هذا السياق أن تصبح السعادة نفسها شيئا توهم المدنية بأنها تبيعه إما في أشياء مادية أو في وصفات جاهزة تتيح للمواطن أن يقيم على نحو مّا في المدينة المعاصرة، ومن هذا المنظور ليست حمّى الإشهار سوى وصفات مكثفة لوجبات سعادة سريعة[19] .

إن المدنية الحديثة تكرّس تصورا للسعادة يجعلها قرينة جشع لا ينتهي وجوع لا يشبع. فكل منتَج  يقدّم ستليه بعد فترة وجيزة نسخة محدَّثة منه تَعِد المستهلك بالكمال الذي لم يتحقق في سابقتها. وبعد كلّ نسخة محدَّثة يتجدد الحديث عن الأحدث الأحدث. وهذا الجوع المتجدد هو الاستثمار الحقيقي لآلة الإشهار. إنّ جوع المحرومين وجشع الميسورين هما الاستثمار الحقيقي للخطاب الإشهاريّ. فعند هؤلاء تكفّ السعادة عن أن تكون إحساسا ممتدا في الزمن لتصبح لحظة هاربة يجددها المستهلِك بمستهلَك جديد. فتكفّ السعادة عن أن تكون كيفية داخلية في الإقامة النفسية  لتصبح كيفية خارجية في الإقامة الاجتماعية في مجتمع استهلاكيّ، فيه تتحدد هويتنا بما نستهلك وبما نعلن عن قدرتنا على استهلاكه. وهو ما يحقق مفارقة بين منظور اقتصادي مادي ومنظور نفسي قيمي، فمن المنظور الاقتصادي تتحدد هوية السعيد بأنه المستهلِك لكل جديد، وفي المنظور النفسي تتحدد هويته بأنه المستهْلَك من كلّ جديد.

إنه صراع محتدم ظاهره إنسان يرغب ومدنية تعطي، وباطنه إنسان أصبح يقيم نفسيا خارج جوانيته وفي برانيّة تقصي كلّ قيمه الأصيلة، إذ هي لا تريد فيه أيّ عمق فلا حاجة إلى القليل من أسئلته وإنما الحاجة كلها إلى الكثير من نهمه.

من رحم هذه المنظومة الحيوية الجديدة تخلّقت منظومة استعارية جديدة هي من جنس الجشع الذي يحرّك الإنسان المعاصر.  وهو ما لا شكّ أن اللغة ستكون ضحيته الأولى.

د. حسين السوداني

 

 

[1]  جاء في مفاتيح العيوم في تعريف ” الأوج”: هو أرفع موضع من الفلك الخارج المركز، أعني أبعده من الأرض. وهي كلمة فارسية، وهي أوك، وقيل: أوره.

[2]  جاء في مفاتيح العلوم في تعريف “الحضيض”: الحضيض، هو مقابل الأوج، وهو أخفض موضع في هذا الفلك وأقربه من الأرض. “

[3]  أبو نصر الفارابي، تحصيل السعادة، قدّم له وبوبه وشرحه: علي أبو ملحم، دار ومكتبة الهلال، ط1، 1995، ص 25.

[4] Darrin McMahon, Happiness: A History, Atlantic Monthly Books, 2006, p:

[5]  أبو نصر الفارابي، تحصيل السعادة، قدّم له وبوبه وشرحه: علي أبو ملحم، دار ومكتبة الهلال، ط1، 1995، ص 25.

[6] Aristote, Éthique à Nicomaque, Traduction Tricot, Éditions Les Échos du Maquis, 2014, p : 28.

[7]  Ibid, p : 38.

[8] Ibid, p : 231.

[9] Ibid, p : 38.

[10] Ibid, p : 38.

[11] Ibid, p : 209.

[12]Xiao Liu and  Guodong Zhao, A Comparative Study of Emotion Metaphors between English and Chinese, Theory and Practice in Language Studies, , January 2013, Vol. 3, No. 1, pp. 155-162

وانظركذلك

Vicky Tzuyin Lai and Kathleen Ahrens, Mappings From the Source Domain of Plant in Mandarin Chinese.

[13] Wierzbicka, Anna 1999. Emotions Across Language and Cultures.: Cambridge University Press.

[14] George Lakoff, The Contemporary Theory of Metaphor,  1992,

[15] George Lakoff (with Mark Johnson  ), Metaphors we live by, London: The university of Chicago press, 2003

[16]   ظهر هذا الشريط السينمائي في 2006 سبتمبر، ويروي سيرةٍ ذاتيّة مستمدة من قِصّة كريستوفر جاردنر، وهو من إخراج غابرييل موكينو وبطولة ويل سميث وابنه جيدن. وأحداث الشريط  مَبنيٌة على قِصّةٍ حقيقيّة هي قِصّة كريستوفر جاردنر الذي يسعى بشتّى الطرق لتوفير أسباب الراحة لأسرته الصغيرة، وبعد أن تَهجره زوجَته بسبب الفقر يُقرّر أن يتعلم مهنة جديدة بها يحصل على مال كاف لتأمين حياةً كريمةً لأسرته.

[17]  توسعت فيرزبيكا في مقارنة مهمة بين زوجي “سعيد” و”سعادة” في فصل يوضح هذه الثنائية.

انظر:

Anna Wierzbicka, Emotions Across Languages and Cultures: Diversity and Universals, Editions de la Maison des Sciences de l’Homme. Paris, 2005, p: 51.

[18]George Lakoff, Women, Fire and Dangerous Things : What Categories Reveal about the Mind, The University of Chicago Press, Chicago and London1990, p: 38.

[19]  اهتم رولان بارت بالبناء الدلالي الكنائي المكثف في إشهار لعجائن بنزاني (panzani) في مقال طريف له  بعنوان “بلاغة الصورة”

انظر

Roland Barthes, Rhétorique de l’image, Communications, Année 1964, Volume 4, Numéro 1, 1964.

مدخل إلى سيميولوجية العطر

houcine
د. حسين السوداني

مدخل إلى سيميولوجية الشمّ

3/1

د. حسين السوداني


ترتبط حاسة الشمّ في التراث الإنساني بعمق حسّيّ كبير، من أوجهه ذلك الدفق العاطفي الذي يتجلى غموضا يكتنف الذاكرة والوجدان إزاء الرائحة ومصدرها. فلذلك تقترن العطور بأشدّ العواطف حميميةً، وتُلازم كلّ ما يكتنفه غموض من الطقوس والتعاويذ والسحر.

وللخطاب المتعلق بالعطور والشم خصوصيات بها يختلف عن غيره من خطابات الحواس الأخرى، ويستحوذ على خطابها في آن، وهي معطيات تجعل حاسة الشم بمثابة الإطار الحسي الذي يحتوي غيره من الحواسّ، فكأن حاسة الشمّ -بتعالي مدرَكاتها- أقرب إلى التجريد من غيرها من الحواسّ.

ومفاتيح دراسة حاسة الشمّ في التراث الإنساني هي الغموض والحميمية والقداسة. فلذلك لا يُعدَم الباحث روابط بين حاسة الشم وبقية الحواس على نحوٍ مّا. وهو ما يوظَّف اليوم على نحو دقيق في بنية الخطاب الإشهاري للعطور.  ولذلك ربما كان في تفكيك ثالوث الغموض والحميمية والقداسة ما يكوّن أرضية لسيميولوجية الشمّ.

يتميز الشمّ عن غيره من الحواس بأنّ مصدر ما يُشَمّ ليس بالضرورة مدرَكا، فهو في أكثر الأحيان غامض مُبْهَم. وفي ذلك ما يجعله على درجة من التعالي والمنَعَة على الإدراك بما يولّد سحريته. فالغرابة والغموض عنصران كثيرا ما يكونان مصدر القيمة الاعتبارية لما نجهله كلّيا أو جزئيا. آية ذلك أنّ كلّ ما عُبِد واأُلِّه من الموجودات حَفَّته بالضرورة هالة من هذا الغموض الآسر للإنسان، فإن أزيح ذلك الغموض كفّ المؤَلَّه عن أولوهيته، وصار كسائر الأشياء. ولعل أصالة الغموض في الشمّ هي ما أضفى على الروائح ومصادرها صفة المحتوِي (container) لا المُحْتوى (contained)، وهي سمة تتجلى على نحو واضح في الأبنية السردية. ويتجلى ذلك انطلاقا من التلازم الدائم بين العطور والبخور وكل ما له علاقة بالإدهاش كالذي يتمّ في التعاويذ والألعاب والخدع. ففي هذه السياقات ينسجم الشم مع حاستيْ البصر والسمع ليولّدا إذعانا وتسليما.

ولئن قامت سمة الغموض على الإغراب والإدهاش في السياقات الطقوسية، فإن الغموض ليس عملا غايته قطع التواصل بين صانع الغموض ومتلقيه، وإنما غايته خلق هيمنة لدى المتحكم في الطقس على نحو يجعل غيره يذعن ويسلّم بالمعنى الذي يريده المهيمن. ولهذا الوجه الطقوسي المتعالي وجه دنيوي يتضح في السياقات اليومية انطلاقا من التلازم بين سمتيْ الندرة والقيمة في تقييم العطور. فالأندر أغلى، والأغلى أعلى في التقدير الجماعيّ. وهذا الأمر يجعل الخطابات الإشهارية اليوم تركز كثيرا على ما يقدّمه العطر من خصوصية تجعل لحامل العطر مساحة آسرة لكلّ من يقع في دائرته.

على هذا النحو يرتبط الغموض بمستويين من التعالي: تعالٍ طقوسيّ وظيفته الإدهاش، وتعال تواصلي وظيفته التعجيب. وفي السياقين ينهض الغموض بوظيفة الهيمنة  وتطويق مساحة الآخر.

والطريف أنّ معنى الهيمنة في فعل حاسة الشمّ يمثل في الذاكرة الإنسانية معطى أساسيا ذا حضور  وظيفي مهمّ في الأبنية السردية. فالمشمومات في سياقها الآني تضفي غموضا آسرا، ولكنها في بعدها الزماني التاريخي تضفي على تعاملنا مع السرديات معنى الحنين (Nostalgia) باعتباره أدقّ العواطف الإنسانية التي تشدّ إلى غائب مّا، هو الماضي –أي الغائب زمانا- أو البعيد، أي الغائب مكانا.

وفي المخيال العربي الإسلامي تتجلى حاسة الشم في القصص القرآني باعتبارها بداية الوصل والانفراج في سورة يوسف. ففي السورة حبكة سردية يشدّ وثاقها عمق وجداني، تنهض فيه الحواس  بوظائف تأثيرية تجعل المتلقي يتعامل مع السرد بوجدانية عالية.  فبفقد يعقوب لابنه يوسف عليهما السلام بكاه حتى فقد بصره، وفي ذلك ما يزرع اليأس في قلب المتلقي من أنّ اللقاء البصريّ غدا مستحيلا حتى إن التأم الشمل بين الأب وابنه. وحين يبلغ  السرد ذروة السوداوية واليأس تتجلى من حاسة الشمّ بارقة الأمل والحياة انطلاقا من الآية {وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ } [يوسف: 94]. فيشيع في السورة من الحنين والأمل مقدار ما أشاعه ريح يوسف في فؤاد يعقوب من اليقين والتثبيت، ثم يستحيل الشمّ بصرا {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا} [يوسف: 96].

ومعنييْ الطهورية والخلاص اللذيْن يرتبطان بالشمّ في الحضارة العربية الإسلامية امتداد في الحديث والأثر، ففي الحديث النبوي ” حُبِّبَ إِليَّ : الطِّيبُ ، والنساء ، وجُعِل قُرَّةُ عَيْني في الصلاة”، وعن عمر بن الخطاب أنه قال « لو كنت تاجرا ما اخترت على العطر شيئا ، إن فاتني ربحه ما فاتني ريحه ».

وتتجلى القداسة في السياق الأسطوري اليوناني انطلاقا من ارتباط الأزهار بمعنى التعويض عن الخطإ والفقد، ويتجلى ذلك من خلال ثلاثة أساطير، أولاها أسطورة نرسيس الذي ما فتئ يتعشَّق صورته في الماء حتى غرق فنبتت في مكان غرقه زهرة النرجس، والثانية أسطورة السرو، فالإلاه أبولو حوَّل سيباروس الصبيّ الاغريقي تخليدا لذكرى صبي قتله على وجه الخطإ. وبالإلاه أبولو ترتبط أسطورة ثالثة هي أسطورة الحسناء التي أحبها أبولو فاستحالت  شجرة غارٍ  رفضا له وهربا منه.

إنّ معنَيَيْ الغموض والقداسة يتضافران في وسم حاسة الشمّ بدرجة عالية من الحميمية، فيستحيل العطر وجها من العلاقة مع الذات ومع الآخر في نفس الوقت. فالتمسك بالعطر يغدو من هذا المنظور ملمح خصوصية وقرينة تمسك بمعنى مّا. ففي الأسطورة تمثل الزهور عوَضا من الفقد، وفي السرد القرآني تجسد الرائحة بداية الوصل ومنطلق الخلاص، وفي اليوميّ يمثّل العطر قرين ذكرى ومثير ذاكرة.

إن ثالوث الغموض والقداسة والحميمية يمثّل الأرضية التصورية التي تتحكم في الأبنية الرمزية الموظفة لحاسة الشّمّ بشكل عامّ وللعطر بشكل خاص. فلمدرَكات الحواس تشكل ماديّ يضفي على المحسوس معناه الآنيّ، أما الشمّ فمدرَكه هو معنى يكون في أغلب الحالات غائبا لأنه يوظف الذاكرة ويستدعي غائبا في مكان أو زمان مفارق، فلذلك يراد بالعطر أمران، أولهما لحظة مفارقة، والثاني هو ترجمة حنين مّا.

على هذا الأساس توظّف الأبنية السردية والخطابات الإشهارية متعلِّقات الشمّ لإثارة هذا الحنين الأصيل، فتنشئ نظاما دلاليا مخصوصا، هو نظام  كنائي (connotative system) عماده المجاز حيث لا يراد من الخطاب معناه الظاهر وإنما يتجاوز المعنى إلى معنى المعنى.

من هذا المنطلق يقتضي تأسيس مقاربة سيميولوجية لحاسة الشمّ اعتبار ثالوث مهمّ، أول عناصره هو الخصوصيات الحسية والإدراكية لمنظومة الشمّ، والثاني علاقة حاسة الشمّ ببقية الحواس من حيث التفاعل والتوظيف والهيمنة، والثالث هو بنية الخطابات  المتعلقة بالشمّ، وأعلاها الأبنية السردية والخطاب الإشهاري، فللشمّ في هذه السياقات  نحوٌ خاص يولّد خطابا مجازيا كنائيا في مدخلاته ومخرجاته.

د. حسين السوداني