الترجمان ذلك الخائن الخوّان

الترجمان ذلك الخائن الخوّان

houcineد. حسين السوداني

يرتبط بالمترجم إطار استعاريّ يبدو عابرا للثقافات هو أن المترجم خائن خوّان[1]، وقد تجسّد ذلك في اللغة الإيطالية على نحو ِحكْميّ انطلاقا من سجع يجري الحُكْم مجرى الحِكمة (traditore traduttore)، وهو السجع الذي سعى بعض الفرنسيين إلى استضافته في اللسان الفرنسي ولو بنحت لفظ غريب عن اللسان الفرنسي، (Traduire, c’est trahir)[2].

ولهذه الريبة نظير في التراث العربي انطلاقا من فكرة أساسية هي استحالة الترجمة المكافئة لأصل الكلام. فلذلك ينبغي فهم “خيانة الترجمان” على غير المعنى الحقيقي للخيانة والتخوين. فالترجمة نشاط إدراكيّ جامع بكلّ معنى الكلمة، وهو يستجمع عمل الذهن في كلّ دقائقه. وقد عبّر الجاحظ عن هذه الإكراهات المنهجية بعبارة تستجمع ما يحيط بنشاط الترجمان من ضوابط وشروط تجعل نجاح الترجمة أمرا غير مأمون. يقول الجاحظ: “ولا بد للترجمان من أن يكون بيانه في نفس الترجمة، في وزن علمه في نفس المعرفة، وينبغي أن يكون أعلم الناس باللغة المنقولة والمنقول إليها، حتى يكون فيهما سواء وغاية، ومتى وجدناه أيضا قد تكلم بلسانين، علمنا أنه قد أدخل الضيم عليهما؛ لأن كل واحدة من اللغتين تجذب الأخرى وتأخذ منها، وتعترض عليها، وكيف يكون تمكن اللسان منهما مجتمعين فيه، كتمكنه إذا انفرد بالواحدة، وإنما له قوة واحدة، فإن تكلم بلغة واحدة استفرغت تلك القوة عليهما، وكذلك إن تكلم بأكثر من لغتين، على حساب ذلك تكون الترجمة لجميع اللغات. وكلما كان الباب من العلم أعسر وأضيق، والعلماء به أقل، كان أشد على المترجم، وأجدر أن يخطئ فيه. ولن تجد البتة مترجما يفي بواحد من هؤلاء العلماء”[3].

لقد صاغ الجاحظ عبارته بصرامة أسلوبية وتشديد فيه ثلاثة مدارج تضبط بالاستتباع ما ينجرّ بتوالد الشروط، فالمدرج الأوّل هو ضرورة تكافؤ بيان المترجم ولغته وعلمه في لغتيْ الانطلاق والوصول. ويستتبع هذا الشرطَ الأوَّلَ تمزقُ المترجم أمام تجاذب لسانيْ الترجمة  “لأن كل واحدة من اللغتين تجذب الأخرى وتأخذ منها، وتعترض عليها “. ولهذا المدرج الثاني استتباع ثالث يكون بحسب مجال الترجمة، وذلك انطلاقا من التناسب الطرديّ بين دقة التخصّص وعسر الترجمة. ومن هذا التدرج السببي يخلص الجاحظ إلى أنّه “لن تجد البتة مترجما يفي بواحد من هؤلاء العلماء”.

وما يجعل الأمر على هذا النحو أنّ كل لغة تمثل وجهة نظر خاصة للعالم والأشياء، وذلك على نحو يختلف بالضرورة من لغة على أخرى، وإدراك هذا الأمر هو من المغانم الأساسية التي يحصّلها من يطّلع على أكثر من لسان واحد. فالذي يتجول بين الألسنة يدرك أهمية تنسيب الأشياء. ذلك أنّ كثيرا مما نراه كونيا في لساننا المحلّيّ قد لا يكون له نظير في لغة أخرى. فمن ذلك أنّ في العربية مفردا ومثنى وجمعا، وليس في الفرنسية مثلا سوى المفرد والجمع. وفي العربية مذكر ومؤنث، وفي الألمانية مذكر ومؤنث ومحايد. وللمقارن بين الألسنة في هذا الباب أمثلة لو علمها كلّ متعصّب للسانه القوميّ لفضّل التنسيب على الإطلاق.

إنّ إدراك هذا المستوى من الفوارق اللغوية وما يقتضيه من كياسة الترجمان هو ما يشكل معرقلا يمكن اعتباره في مستوى الكليات اللغوية، وهو لذلك يمثل مستوى مشتركا بين المشتغلين بالترجمة نظريا وتطبيقيا، ويتجلّى هذا الوجه النظاميّ في السياقات العلمية التقنية مثل الهندسة والتنجيم والحساب واللحون. ولكنه قد يغدو هيّنا متى قورن بمستوى أسلوبيّ لا يرتبط بنظام اللسانيْن: المنقول منه والمنقول إليه، وإنما يتعلق بالمستوى الفرديّ من تصرّف المتكلمين في قواعد ألسنتهم المحلية، وهو الذي يساوي مستوى الكلام في قسمة فردينان دي سوسير لمستويات الظاهرة اللغوية إلى مستوى كونيّ يسميه “اللغة” (Langage)، ومستوى اجتماعي يسميه “اللسان”  (Langue) ومستوى فرديّ هو مستوى “الكلام” (Parole).

في هذا المستوى الفردي تتباين أساليب المتكلمين واختياراتهم التعبيرية في دائرة اللسان الواحد، ولذلك خصّ الجاحظ هذا المستوى بتفصيل خاصّ، فقال مقارنا لهذا المستوى بسابقه: “هذا قولنا في كتب الهندسة والتنجيم والحساب واللحون، فكيف لو كانت هذه الكتب كتب دين وإخبار عن الله -عزل وجل- بما يجوز عليه مما لا يجوز عليه حتى يريد أن يتكلم على تصحيح المعاني في الطبائع، ويكون ذلك معقودا بالتوحيد، ويتكلم في وجوه الإخبار واحتمالاته للوجوه، ويكون ذلك متضمنا بما يجوز على الله تعالى، مما لا يجوز، وبما لا يجوز على الناس مما لا يجوز، وحتى يعلم مستقر العام والخاص، والمقابلات التي تلقى الأخبار العامية المخرج فيجعلها خاصية؛ وحتى يعرف من الخبر ما يخصه الخبر الذي هو أثر، مما يخصه الخبر الذي هو قرآن، وما يخصه العقل مما تخصه العادة أو الحال الرادة له عن العموم؛ وحتى يعرف ما يكون من الخبر صدقا أو كذبا، وما لا يجوز أن يسمى بصدق ولا كذب؛ وحتى يعرف اسم الصدق والكذب، وعلى كم معنى يشتمل ويجتمع، وعند فقد أي معنى ينقلب ذلك الاسم، وكذلك معرفة المحال من الصحيح، وأي شيء تأويل المحال، وهل يسمى المحال كذبا أم لا يجوز ذلك، وأي القولين أفحش: المحال أم الكذب، وفي أي موضع يكون المحال أفضع، والكذب أشنع؛ وحتى يعرف المثل والبديع، والوحي والكناية، وفصل ما بين الخطل والهدر. والمقصور والمبسوط والاختصار؛ وحتى يعرف أبنية الكلام، وعادات القوم، وأسباب تفاهمهم، والذي ذكرنا قليل من كثير”.

إنّ هذه الضوابط المنهجية هي ما يجعل النصّ الواحد مرشحا بالضرورة لترجمات يكافئ عددُها عدد مترجميها. فكلّ ترجمة إنما هي ترجمة عن فهم صاحبها لما يترجم. ومن ملامح ذلك أنّ شيشرون يحدد الخطوط العريضة لمنهجه في الترجمة في مقدمته لترجمة de optimo genere oratorum قائلا :”أنا لم أترجم هذه الخطب باعتباري مترجماً بل باعتباري خطيباً , فأبقيت على الأفكار والأشكال نفسها , أو إذا صح هذا التعبير , أبقيته على ” صور ” الفكر نفسها وإن كان ذلك في لغة تتفق مع استعمالنا اللغوي المعاصر، وفي غضون ذلك لم أر من الضروري أن أترجم كل كلمة بكلمة مماثلة , بل حافظت على الأسلوب العام وعلى قوة اللغة”[4].

من كل ذلك نخلص إلى أنّ ما ينجزه الترجمان ليس في كل الأخوال  نقلا لأصل المعنى في الكلام المنقول، وهو أمر يضاعف مسؤولية المترجم انطلاقا من أنّ للمعاني في الكلام ظلالا هي ما جعل المناطقة -ومن بعدهم الأصوليون والبلاغيون- يميّزون في الدلالة منذ القديم بين دلالة المطابقة  (Denotation)  ودلالة التضمّن (Implication) ودلالة الالتزام (Connotation).

من خصائص ظلال المعنى أنها تقدَّم في الخطاب وكأنها ليست الهدف المراد إبلاغه، ولذلك تمثل مدلولات لا تلقى عنتا في تلقّيها وتمثلها، فهي تلبس رداء غيرها، وهي تقدّم في حيّز المسكوت عنه من الضمنيات التي تبدو كالمتفق عليه أو التي يراد لها أن تبدو كأنها من المتفق عليه الذي لا خلاف حوله، ولذلك يتكثف المعنى وتتراكب مستويات دلالية كلما وجدت دلالة التزامية، وخاصية الإيهام هذه هي ما جعل رولان رولان بارت (Roland Barthes) (1915- 1980) يخصص فصلين في مقدمة كتابه (S/Z) للدفاع عن دلالة الالتزام ضدّ السيميولوجيين والفيلولوجيين، فيقول في بيان أهمية دلالة الالتزام : “إنّ دلالة الالتزام هي السبيل إلى تعدد المعنى في النص الكلاسيكي، إلى هذه الوفرة المضبوطة التي تؤسس النص الكلاسيكيّ”[5].

  والمتأمل في كتابات رولان بارت يجد احتفاء خاصا بمناطق من المعنى ليس من المتداول الاحتفاء بها، وقد تجلى ذلك في أنّ حديثه عن دلالة الالتزام يرد تقريظا تارة واستشرافا بأنها المستقبل الحقّ للسانيات تارة أخرى[6]، فمن الناحية الوظيفية تعدّ دلالة الالتزام “تشويشا” (bruit ) يعتري المدلول المطابَقي ولكنه نِعم التشويش فهو يفسد تلك السكينة العقيمة التي بني عليها تصوّر آحادية المعنى[7]،

وهذه القيمة التي يعلنها رولان بارت لدلالة الالتزام تجلت على نحو حقيقي في سياقات تطبيقية مثل الأسلوبية والترجمة، فجورج مونان  (Georges Mounin) (1910-1993) مثلا يعرّف دلالة الالتزام بأنها “ما يعْلق بالمدلول من حواش دلالية ذاتية”[8]، ولكن هذه الحواشي تمثل مكونا دلاليا لا ينبغي إهماله، فمونان يرى في سياق دراسته للمسائل النظرية للترجمة أنّه “أيا كان تصنيفنا للدلالات الالتزامية وأيا كانت تسميتنا لها فإنها تعتبر من اللغة، ويجب أن تترجم شأنها شأن كل المدلولات المطابقية”[9]، وهو أمر يثير في الحقيقة عدة مشكلات رأسها عدم تماثل الحوامل بين الألسنة، ومثال ذلك صوت الراء في الفرنسية والقاف في العربية، فلكل منهما صور في الإنجاز ذات مدلولات اجتماعية تتجاوز المستوى المقطعيّ، ولكن صعوبة ترجمة هذه المعاني الثواني هي مما يمكن أن نعرّف به دلالة الالتزام، فعند الترجمة فإنّ الالتزامي من الدّلالة هو في أكثر الأحيان ما لا يمكن ترجمته من لسان إلى آخر، وهو أمر ذو طبيعة تصورية، ذلك أنّ الوحدة اللغوية تعلق بها في المستوى التصوّري زوائد دلالية، فتلازمها حتى تكون بمثابة الجزء من مدلولها المطابقيّ، ومثال ذلك صفة “يهودي” في متداول اللغة العربية، فدلالتها الأخلاقية جعلتها تكاد تتمحّض للدلالة على الشرّ المطلق في الأخلاق، ومثل ذلك تباين تصوّر البهلوان/ المهرّج في الألسنة الهندية الأوروبية، فكلمة (clown) في اللغة الأنغليزية تحيل على البريء الساذج، ويدلّ مقابلها في اللسان الألباني (pehlivan) مثلا على الماهر القادر على حياكة الألاعيب[10]. ومن منظور جورج لايكوف تعتبر هذه الزوائد الدلالية وجها مهمّا في تفسير الاشتراك اللغويّ، وقد اختبر لايكوف ذلك انطلاقا من كلمة Bacheleor  الأنغليزية، فكثيرا ما يمثل المعنى اللزومي المرتبط بماصدقات مختلفة نواة دلالية لأجلها يطلق الاسم الواحد على أكثر من مسمى[11].

 ولذلك نقدّر أنّ ما يحمله جورج مونان على سبيل الوجوب ليس إلا على سبيل إعلاء سقف ما يجب أن ينتظر من المترجم، ولعلّ ذلك هو ما يجعل كلّ ترجمة مشوبة بما يسمى مبالغةً “خيانة مّا للنصّ المترجم “. وكذلك الأمر بالنسبة إلى فكرة الضيم في تصوّر الجاحظ للترجمة فإنّها عبارة صيغت بمنظور وصفيّ لا معياريّ إذ الجاحظ يصف بذلك العمليات الذهنية في نشاط الترجمة ، ومُضْمَر ذلك هو الخطر الجليل لنشاط الترجمان على نحو يقتضي الحيطة وحسن الاستعداد، وعلى ذلك النحو أيضا تُفهم صفة الخيانة في الترجمة.

[1]  ترجة المثل الإيطالي على هذا النحو هي ما اقترحه صالح القرمادي في مقدمته لترجمة الطيب البكوش لكتاب جورج مونان “مفاتيح الألسنية”

[2] Joachim du Bellay, Défense et illustration de la langue française.

[3]  الجاحظ، الحيوان، دار الكتب العلمية – بيروت، ج1، ص 54.

[4]  محمد عناني، نظرية الترجمة الحديثة، الشركة المصرية العالمية للنشر، مصر، 2003، ص 27.

[5]Roland Barthes, S/Z, ed Seuil 1970, p 14.

[6] Roland Barthes, éléments de sémiologie, p 131.

[7] ibid, p 15.

[8] George Mounin, La Communication poétique, précédé de Avezvous lu Char ?, Gallimard, 1969, p 25.

[9] George Mounin,  Les problèmes théoriques de la traduction, Gallimard, Paris,  1963, p 166

[10] Mimoza Rista-Dema, Language Register and the Impacts of Translation: Evidence from Albanian Political Memoirs and their English Translations, in “political discourse analysis” edited by S. G. Obeng and B. A. S. Hartford, Nova Science Publishers, New York,2008, p 7

وتقديرنا أنّ عماد الخطاب الإشهاري هو تكثيف القوّة الدلالية الكنائية للفظ وتفقير مدلوله المطابقيّ، ولذلك يعمد أصحاب صناعة الإشهار إلى زاوية في المادة الإشهارية تكون طيّعة للشحن الدلاليّ، فيعرجون بإدراك المتلقي عن الدلالة المألوفة إلى دلالة تلقى في نفسه هوى، وأكثر المداخل اليسيرة في مثل هذا السياق مداخل المحظورات كالجنس مثلا.

انظر مثلا:

– Elsa Simões Lucas Freitas, Taboo in Advertising, John Benjamins Publishing Company, Amsterdam-  Philadelphia, 2008, p 44

وتذكر مؤلفة الكتاب في هذا السياق أنّ قناة TVI –وهي التي كانت ملكا للكنيسة الكاثوليكية في منطلق بثها- كانت تمتنع امتناعا مطلقا عن عرض كل إشهار لموادّ محظورة أو محتو على مادة مخلة، وعندما انتقلت ملكية القناة إلى شركة خاصة تخلت عن كلّ تلك الخلفية الكاثوليكية، وصاغت لها سياسة إدارة جديدة، فاقتضى منظور الربح أن يصبح ما حيدته القناة في الماضي جزءا من مداخل الربح في حاضرها (انظر ص 11 من الكتاب)

[11] انظر

Lakoff (George), Women, Fire and Dangerous Things : What Categories Reveal about the Mind, The University of Chicago Press, Chicago and London1990

وقد طبّق الأزهر الزناد ذلك على مثال لفظ “العين” في العربية.

انظر:

الأزهر الزناد، فصول في الدّلالة ما بين المعجم والنّحو، (الفصل الأوّل: مراتب الاتّساع في الدّلالة المعجميّة المشترك في العربية “عين” نموذجا) منشورات محمد علي الحاميّ، تونس، الدار العربية للعلوم ناشرون، لبنان، دار الاختلاف، الجزائر، 2010، ص ص 15-42.

أضف تعليق